أقلام ثقافية

قاسم حسين صالح: نوروز.. عيد يوحّدنا

كنا نحن صبايا وصبيان الشطرة نلبس اجمل الملابس في هذا اليوم. ما كنّا نعرف انه (21 آذار) او انه (عيد النوروز) بل نعرف انه (يوم الدخول.. دخول السنه). وكنّا نرى امهاتنا وأخواتنا يحملن (صواني) فيها شموع واوراق خس واغصان الياس وحامض حلو.. وفي الوسط تستقر طاسة حنّاء كأنها عروسة. وكانت البنات يحملن (صواني) مزينة بالخضرة، ملئى بمنّ السما وأصابع العروس، متوجهين جميعا للأمام العباس القريب من مدينتنا الشطرة. وباستثنائنا نحن الصبايا والصبيان فان النساء كانت لهن طلبات يتوجهن بها للأمام العباس وقد نذرن له ما امتلئت به الصواني من (حلاّل المشاكل) باصلاح حالها مع زوجها او عودة غائب، فيما البنات حملن (صوانيهن) المزينه باصابع العروس.. نذورا ان اصبحن في (دخول السنه) القادم.. عرائس!

ولقد وجدت فيما بعد ان اخوتنا الكورد لهم (صوانيهم) ايضا.. بمفارقة لطيفة، انها تملأ بسبع مواد تبدأ بحرف السين هي: سير (ثوم)، سكه (عمله نقدية)، سنجر (فاكهه مجففه)، سبزي (خضره)، سبيكه (قطعة ذهب)، ساهون (حلويات)، سماق، وسركه (خل). وتوضع في مقدّمة المائدة مرآة وعلى جانبيها شمعدانات تحمل شموعًا مضيئة بعدد أولاد العائلة من الذكور والإناث.. ومرآة وقرآن وسمك وفاكهة ومكسرات وماء الورد.. غير ان وجود الحلويات شرط واجب في صواني كل المحتفلين بالنوروز.. في كوردستان وأيران واذربيجان.. وصواني دخول السنه في الشطرة والسماوة وميسان!.

و(نيوروز) تعني باللغة الكوردية (يوم جديد New day) تتم فيه الأرض دورتها السنوية حول الشمس، لتبدأ دورة جديدة تدخل فيها شهر الخصب وتجدد الحياة. وفيه تبدأ الافراح استبشاراً بحلول عهد جديد تتحول فيه الطبيعة الى جنة خضراء، يتوجه اليها الناس لمعانقتها وترتدي فيه العائلات الكردية الزي التقليدي المزركش بالألوان الفاتحة والزاهية، وتصدح فيه ألاهازيج، وتتشابك الأيدي في حلقات رقص ودبكات ومهرجانات غنائية شعبية تستمر حتى ساعات متأخرة من الليل تتخللها مقاطع شعرية تتحدث عن الثورات ضد الطغاة، حيث يعدّ نوروز رمزا للتحرر من الظلم والاضطهاد في كردستان وعدد من دول المنطقة، اذ يزيد عدد المحتفلين بهذا اليوم على 300 مليون معظمهم في آسيا، توحّدهم تقاليد ومعتقدات وعادات مشتركة.فجميعهم يحملون شعلة النار لآعتقادهم بأن النار ترمز الى الحياة والخلود، وتعطي الغذاء والدفء والحياة، وانها تتمتع بقدرات التطهير كما يعتقد شعب اذربيجان. واظن ان شعلة الألعاب الأولمبية التي تطوف من اليونان حول العالم قد استعارت هذا التقليد من النوروز لأنها تهدف الى تحقيق نفس الحاجة السيكولوجية: اشاعة المحبة والتآخي بين الناس على اختلاف دياناتهم واجناسهم.وأن قوة سيكولوجيا هذا التقليد اجبرت الحكّام على ايقاف القتال وتوقيع معاهدات السلام واطلاق سراح الأسرى من السجون في يوم النوروز.فضلا عن ان الطبيعة ذاتها لعبت دورا كبيرا في سيكولوجيا النوروز، اذ يعد(21 آذار) عيد اعتدال الربيع وبدء موسم الزراعة ورمز التجدد والنشاط والدفء، وتشغيل مراكز الانفعالات الفسلجية في الدماغ الخاصة بالفرح والسعادة وتنشيط القلب بحثا عن حب يشتهيه!

ومن جميل ما قرأت ان هنالك علاقة بين (نوروز) و(تموز وعشتار). فالمعروف عن حادثة “تموز” أنه في آخر مرة يذهب الى تحت الأرض ثم يأتي الى وجه الأرض كإله، وانه كان يحتفل بموت وحياة “تموز” في وطن سومر، وانه في 21 آذار من كل عام كان السومريون يعقدون احتفالات كبرى في حياة “تموز” ويعرفون هذا اليوم بعيد (زكمك).والحادثة ذاتها ترد في ملحمة الشاعر الكردي الكبير احمدي خان، (مم وزين) حيث يبدأ الملحمة بيوم نوروز 21/ آذار- مارس، فهنالك شبه كبير بين قصة (تموز وعشتار) وقصة العاشقين (مم وزين).. اذ تمتليء حياة (مم) بالعذاب والفراق بعد معرفته لحبيبته (زين).. وتصبح حياتهما مشابهة للحياة الكارثية لـ(تموز) الذي يذهب الى الاسفل فيما يودع(زين)في السجن الى الموت.

ومن جميل ما قرأت أن كتّابا كردا وعربا يتفقون على ان(21 آذار) الذي يصادف اليوم الأول من العام الكردي الذي يمتد تاريخه الى 700 سنة قبل الميلاد، كان يوم عيد عند السومريين، وانهم كانوا يحتفلون به تحت مسمى عيد (زكمك)، وأن (كاوا) الكردي هو (تموز) السومري.. ما يعني أننا العرب والكورد شعبان لنا تاريخ مشترك حتى في الطقوس والأساطير والأعياد، وأن نيروز (كاوه) او نوروز (سومر) الذي وحّد العرب والكورد آلآف السنين، سيبقى ينعش مشاعر المحبة والتآخي بين الشعبين.. اليوم وغدا.. لأن سحر رموزه في اللاوعي الجمعي للناس يبقى أبديا!

***

د. قاسم حسين صالح 

في المثقف اليوم