أقلام ثقافية

عقيل العبود: حكايات تسعينية حاضرة

بطاقات إعدام جماعي..

غدا الرصاص يلفظ أنفاس الرحمة من فوق سطوح المنازل التي أغار الخوف عليها، بعد أن تمزقت أشلاء المدينة، وأصاب جدرانها الهلع؛ أمست الشوارع مقفرة، خائبة، حيث احترقت، لتغدو أشبه بأطلال تسكنها الأشباح.

**

اضطربت الحافات المتهرئة للمؤسسات، وبعض المساكن، والبنايات الحكومية، حتى تفاعلت ألوانها المكفهرة مع بقايا الزجاج المهشم لنهايات الأسلاك المتهالكة عند طيات الأرصفة التي سكنها الذعر.

**

اختبأ أكثر الناس في بيوتهم تجنباً لإطلاقات القناص، وقذائف الهاون، حين تم اقتحام وتطويق المدينة بقطعات العسكر، وإعادة السيطرة عليها، بينما انتشر ذوو البزات الخضراء في جميع الشوارع، وحاصروا نقاط الحراسة، التي أقامها المنتفضون في معظم المناطق.

**

فتحت البقعة الساخنة ذراعيها معلنة استسلامها لنيران الأسلحة، عندئذٍ أخذت سيارات الجيب المزودة بالتجهيزات العسكرية تلاحق الجميع بإسناد المروحيات التي تم السماح لها بالتحليق وفقا لإتفاقية خيمة صفوان الخاصة باجتماع بعض المسؤولين من قيادات الحزب الحاكم مع ممثلين عن قوات التحالف.

**

أخذت مكبرات الصوت طريقها إلى مسامع الناس، ملزمة إياهم ترك منازلهم، والتجمع في ساحة الاحتفالات الكبرى، وتم الاستعانة بعملاء الحزب الذين اندسوا مع المنتفضين للإخبار والتبليغ عن أسماء ووجوه المشتركين.

**

ابتدأت المجزرة، وتحولت منطقة الهولندي التي سيِقَ لها الضحايا إلى أكبر مقبرة جماعية، حصلت في تاريخ العراق منذ مجازر ناظم كزار، التي كانت تجري في سجون مديريات الأمن العامة، ناهيك عن وسائل التعذيب، والقمع والتي من ضمنها تفخيخ الضحية، وتفجيرها بواسطة الكونترول.

**

أصبح الشاهد يقلب خطواته الموجوعة، يستعرض ظل الشمس، يرسم رائحة الذكريات؛ باتت أسماء أحبته تتلى مآسي فقدهم؛ منهم من تم تصفيته عن طريق القناصين، أو القصف، ومنهم من تم أسره وتعذيبه لدفنه مع الضحايا تحت الأنقاض.

**

راح يستمع إلى أنين نخلة جاورت حديقة بيته منذ زمان، بعد أن تعبت سعيفاتها الشاحبة، غادرها مودعاً مع أول ساعات المساء.

**

تناهى إلى مسامعه دوي الارتطام الذي كانت تخلفه معدات الحفر الثقيلة، وهي تحمل بين فكيها أنياب الفزع المكتظ بشفرات الهلاك؛ تدك الأرض لتحفر خنادق الجثث التي تكدست صرخاتها، مذعنة لركام الطبقات المعفرة برائحة البارود، يعقبها أنين مكبل ببقايا أنفاس لا تقوى لأن تنطق لغة الشهادة.

**

ترتب على الذين لم يتح لهم المجال للهروب إلى المعسكرات التي تشرف عليها قوات التحالف أن يرضخوا لأوامر سلطة البعث استعدادا لحتفهم المؤكد.

**

حملته أقدامه المتعثرة لعبور الرباطات الواهنة متجاوزاً ساحة الاحتفالات التي تركها خلفه، أملاً بالوصول إلى كراج حافلات نقل الركاب بأسرع فرصة قبل أن يقع اسمه مع قوائم المطلوبين والتي بحوزة السيطرات المنتشرة على طول الخط الواصل إلى بغداد.

**

تزامنت لحظة مغادرته مع دخول قوات الحرس الجمهوري، وألوية القوات الخاصة، وبإشراف جنرالات قريبة إلى النظام.

***

صار على وشك أن يقع فريسة في مصيدة ثكناتهم التي تم توزيعها عند ممرات العبور، لولا إقبال شابة، فاتنة الملامح، كانت تحمل معها طفلاً، وحقيبة، ويبدو أنها مثله تروم المغادرة.

**

أعد نفسه لإجراء مشهد تمثيلي لعله ينجو من فخ التحقيقات المعدة من قبلهم، خاصة أنه أحد المشمولين بقوائم الموت بعد أن وقع اسمه بيد مختار المنطقة، الذي لم تفته فرصة إكمال التقارير الخاصة بجميع أسماء المنتفضين.

**

حاول التظاهر أمام السيطرة بأنه زوج تلك الفاتنة التي يبدو أن الله أنعم بها عليه لإنقاذ حياته، غَيَّرَ طريقة لهجته الجنوبية، ومن المفيد أنه أحلق ذقنه، وارتدى بدلة أنيقة مع ربطة عنق متظاهراً بأنه من أصحاب الوظائف المهمة، والنفوذ، وأنه قد تم محاصرته من قبل من أطلق عليهم بالغوغائيين.

**

أبدت الشابة ارتياحها، ولم تستغرب، وكأنها هي الأخرى تحتاج إلى رفيق سفر يحميها، ولذلك لم ترد عليه كلامه، كأنها فهمت لغة التمويه التي أتقنها ، راح يحمل حقيبتها مستغلاً نظرات ضابط السيطرة إلى عينيها، بينما انشغلت هي مع ابنها الصغير مستأنفة خطواتها معه صوب الحافلة المتجهة  إلى بغداد، أخذته نشوة الفرح بعد شعوره بالنجاة.

***

عقيل العبود

....................

* ساحة الاحتفالات الكبرى مكان على شاكلة مجموعة حدائق، وفيه ألعاب للصغار، وقد تم تخصيصه لمناسبات النظام الحاكم في تلك المدينة في بعض الأحيان.

* خيمة صفوان اتفاقية بموجبها تمت الموافقة على فتح المجال الجوي لطائرات الهليكوبتر التابعة لنظام الحكومة العراقية آنذاك، وبذلك أتيح للنظام تصفية المدن تباعا.

* أطلق على المنتفضين بالغوغائيين، وتم تسمية التمرد الشعبي، بالانتفاضة الشعبانية.

* النص نشر في كتاب حقائق غير هامشية عام ٢٠٠٠ بعنوان اخر المطاف/ الجزء الثالث.

  • الجزء الثاني سيأتي لاحقاً.

في المثقف اليوم