أقلام ثقافية

بين غوغول واحمد شوقي

كان صديقنا الكردي يصرّ ويؤكّد دائما على تسمية احمد شوقي ب (الشاعر الكردي)، وكنّا نضحك ونقول له، لكن شوقي (أمير الشعراء العرب)، فيجيبنا، نحن الاكراد (منحناه !) لكم، كي يكون (أميرا !) للشعر العربي عندكم، اذ لم يكن لديكم أميرا للشعراء العرب عندها، وقد طالبه أحد الاصدقاء – ضاحكا ايضا – برقم وتاريخ الامر الاداري الكردي حول هذا (المنح !)، او في الاقل، ببيت شعر من شوقي يشير الى ذلك، ولم يستطع صديقنا الكردي تلبية هذا الطلب المزدوج، لكنه – مع ذلك - استمر باصراره على تسمية شوقي بالشاعر الكردي، عندها قررنا الرجوع الى المصادر المتوفرة لدينا آنذاك، ووجدنا، ان (غوغل) يشير، الى ان شوقي - (.....ولد من أب شركسي وام يونانية، وفي مصادر اخرى أباه كردي وامه من اصول تركية وشركسية،... وبعض المصادر تقول، ان جدّته لابيه شركسية وجدّته لامه يونانية ...)، ووجدنا كذلك، ان اسم احمد شوقي موجود هناك ضمن قوائم (مصريون أكراد)، وضمن قوائم (مصريون أتراك)، وضمن قوائم (مصريون شركس) . وقد وصلنا جميعا الى استنتاج واحد يقول، ان المصادر العربية لم تتوقف بالتفصيل عند الاصول القومية لاحمد شوقي، اذ انه كان – للجميع - رمزا للشعر العربي في القرن العشرين ...

 تذكرنا هذه الاحاديث الضاحكة قبل أيام، ونحن نستمع الى الاوكرانيين وهم في خضم هذه الحرب الدموية الرهيبة على اراضيهم مع شقيقتهم السلافية الكبرى روسيا، (والاقارب عقارب كما يقول المثل اللئيم)، نستمع اليهم وهم يؤكدون، ان الكاتب الروسي نيقولاي فاسيليفيتش غوغول اوكراني (أبّا عن جد ومن سابع ظهر)، اي انه من (التبعية الاوكرانية) حسب التعبير السياسي العراقي الذي كان سائدا قبل الاحتلال الامريكي عام 2003، وعلّق احد الاصدقاء قائلا – هذا يعني، ان اوكرانيا (منحت غوغول !) لروسيا (مثلما منح الاكراد احمد شوقي للعرب)، كي يكون (أميرا !) للادب الروسي عندهم، لأن أدبهم كان يخلو آنذاك من منصب (أمير الناثرين الروس !)، اذ كان عندهم فقط بوشكين (أميرا للشعراء الروس)، وأضاف هذا الصديق قائلا - ان هذا الموقف يسمح لنا ان نقارن الآن بين غوغول (الاوكراني) واحمد شوقي (الكردي التركي الشركسي) . ضحكنا جميعا، واعترضنا على هذا الاستنتاج الغريب العجيب وغير المتوقع بتاتا، وقلنا، انها ستكون مقارنة مصطنعة ليس الا، اذ ان هذه المقارنة غير دقيقة، بل وغير علمية بتاتا، لانها لا تتناول جوهر ابداعهما (وهو العنصر الاهم في دراسات علم الادب المقارن عموما)، وانما تعتمد فقط على اصولهما القومية، الا ان صاحبنا، الذي اقترح المقارنة بينهما أخذ يدافع بحماس – منقطع النظير- عن مقترحه هذا حول المقارنة بين غوغول وشوقي، ويبرر حتى ضرورته وقال - ارجوكم ان تمنحوني فرصة اكمال اقتراحي، وبعد ذلك سنتحدّث . وهكذا بدأ الكلام عن تلك المقارنة.

ومختصر كلام صاحبنا عن المقارنة بين غوغول وشوقي يكمن بما يأتي –

 كلاهما (غوغول وشوقي) كتبا ابداعهما ليس بلغتهما القومية، وانما باللغة السائدة في البلد الذي كانا يعيشان به، ولا يوجد لدينا اي نص عند شوقي باللغة الكردية او التركية او الشركسية، اذ ان كل ابداع شوقي مكتوب باللغة العربية، و كذلك الحال بالنسبة لغوغول، اذ لا يوجد لدينا اي نص عند غوغول باللغة الاوكرانية، فابداع غوغول كله مكتوب باللغة الروسية، وحتى كتابه المبكر (امسيات في قرية قرب ديكانكا) الذي كان يتناول الفلكلور الاوكراني البحت بقصصه واماكن حدوثها، كان مكتوبا باللغة الروسية . هذا اولا، وثانيا، كلاهما (غوغول وشوقي) عبقريان، ولهذا وصلا – وبجدارة - الى قمة الابداع الادبي باللغة التي كتبا بها، وثالثا، كلاهما عبّرا في ابداعهما هذا عن أسمى ما كان يرغب بتحقيقه شعبا تلك اللغتين، ولهذا أصبحا خالدين في التاريخ الادبي لهذين الشعبين .

 اختتم صاحبنا كلامه بالقول – شوقي شاعر عربي بغض النظر عن اصوله القومية، وغوغول كاتب روسي بغض النظر عن اصوله القومية، وهذه هي خلاصة رأيّ الشخصي بعد هذه المقارنة بين شوقي وغوغول، فماذا تقولون ؟ بقينا جميعا صامتين، فقال مرة اخرى - افهم ان السكوت من الرضا، ولكن – مع ذلك – اريد ان أسألكم، ماذا تريدون ان تضيفوا الى ما قلته ؟ قال أحد الحاضرين – اريد ان اكرر ما قاله شوقي - ...ودمع لا يكفكف يا دمشق ... . وقال الثاني – أما أنا، فاريد ان اقول للروس والاوكرانيين معا، الذين يتحاربون الآن – تذكروا، ان غوغول الاوكراني هو كاتب روسي، وان غوغول وبوشكين يقفان معا وجنبا لجنب في النصب الذي أقامه القيصر المحرر الكساندر الثاني في مدينة نوفغورد في القرن التاسع عشر بمناسبة الذكرى الالفية لتأسيس الدولة الروسية (الدولة التي كانت تسمّى – كييفسكايا روس !!!)، هذا النصب التاريخي الذي لا يزال قائما وشامخا على الارض الروسية لحد الآن، ولا يمكن لبوشكين وغوغول ان يتحاربا مع بعض، اذ لا يمكن لبوشكين ان يريق دماء غوغول، ولا يمكن لغوغول ان يريق دماء بوشكين، وليتذكر الروس والاوكران معا هذه الحقائق الساطعة في تاريخهما المشترك ...

***   

أ.د. ضياء نافع 

في المثقف اليوم