أقلام ثقافية

قراءة في رواية رسائل مؤجلة للكاتبة فوزية البوبكري

سونيا عبداللطيفوصلتني بتاريخ يوم 21 /01/ 2021 هديّة تتمثّل في كتاب من جنس الرواية تحت عنوان "رسائل مؤجلة" من صاحبتها الكاتبة فوزية البوبكري ترجو مني الإطلاع عليها وتخصيص موعد إن أمكن لتقديم كتابها..

في الحقيقة، ألقيت نظرة على الكتاب، عنوانه، غلافه، سريعا تصفّحته، فالوقت لم يكن مناسبا لسبر أغواره، فتركته جانبا، لكن بمكان يظلّ دوما قبالتي، حتى لا يغيب عن ذاكرتي، في اليوم الموالي من تسلمي الرواية سافرت إلى المغرب ولم أعد إلى تونس إلاّ يوم 03 /12/ 2021 ومنها ذهبت الى مدينتي قليبية، فمكثت عشرة أيام مع العائلة بين التزاماتي الأسرية وواجبي تجاه والدتي المريضة، إلى جانب ذلك كانت اهتماماتي مركّزة على كتب شعراء وأدباء كنت نسقت معهم لاستضافتهم في نادي الأدب، فلم يكن لي وقت لمطالعة كتاب غيرها، وكانت آخر أمسية قدمتها في نادي الأدب الذي أشرف عليه بجمعية ابن عرفة الثقافية بالسليمانية بتاريخ 14 ديسمبر، استضفت فيها الشاعر الجزائري رياض عيساوي، ومن الغد واكبت ندوة في كلية تسعة افريل وفي طريق العودة الى بيتي اختفى هاتفي الجوال الذي يتضمن كل أعمالي وصوري وفيديوهاتي من ضمنها تلك التي وثّقتها والتقطتها وسجلتها خلال سفرتي إلى المغرب ولم انشرها بعد، لقد سرق في غفلة مني فكانت صدمة كبيرة تلقيتها وصفعة قوية جعلتني أنهار.. ومع ذلك واصلت نشاطي فحضرت أمسية تقديم مجموعة شعرية لصديقتي كوثر بولعابي بمدينة الثقافة يوم 18 ديسمبر ومن الغد 19 لبّيت دعوة لحضور أمسية نسّقتها الشاعرة هدى ولهازي بمدينة تستور، ثم ذهبت إلى المنستير لحضور مهرجان البحر ينشد شعرا أيام 24_ 25_ 26 من ديسمبر، وإثره مباشرة قصدت مدينتي، فحياتي مقسمة بين العاصمة ومسقط رأسي قليبية، واعتذرت عن حضور أمسية يومي 28_ 29من نفس الشهر بالكاف..

في مستهلّ العام الجديد واصلت نشاطي بنادي الأدب فقدمنا ضيفا يوم 04/ 01/ 2022 الدكتور قاسم بن عبد القادر الونيسي وكتابه علم الكلام الجديد، إشكاليات الموضوع والمنهج،

ثمّ أمسية يوم 11/ 01/ 2022 قدمتُ فيها الأديبة محبوبة الخماسي، ومن حظنا حصلت مستجدات مما أجبرت الحكومة تصدر بيانا يتمثل في حظر الجولان ابتداء من العاشرة مساء، إلى الخامسة صباحا، وإيقاف وإلغاء وتأجيل كل تظاهرة ثقافية بالبلاد لمدّة نصف شهر.. بسبب انتشار الفيروس الجديد المتحول للكورونا في تونس..

قرّرت أن ألازم البيت، وأوفر وقتي للقراءة والمطالعة والكتابة ومراجعة بعض كتاباتي..

أول كتاب وضعته أمامي كتاب شعر للشاعرة سونيا القابسي * في رحاب الجلنار * فاطلعت عليه ودونت كلمة في حقّه فموعد تقديمه يوم 18 /01 /2022 والذي أجل ريثما تعود الأنشطة الثقافية إذا لم يحصل تمديد..

الكتاب الثاني هو رواية * رسائل مؤجلة * كنت أنقله معي حيث أذهب وأنتقل، غرفة الجلوس، غرفة النوم، المطبخ وقليبية حين أسافر..

طالعت منه يوم الخميس 13 /01 /2022، 59 صفحة، ومن الغد صارت عددالصفحات التي قرأتها منه 127 غير أنّ التعب والنوم كانا عليّ سلطانا فأترك الكتاب الذي شدّني، راق لي أسلوبه وموضوعه واللغة التي كتب بها، في اليوم الثالث انشغلت بأشياء أخرى ما حز ّفي نفسي لأنّي رغبت أن أتمّ فهو حقا كتاب ممتع، فقررت في اليوم الرابع أن أخصص كل وقتي لإكماله مهما كلفني ذلك، والحمد لله كنت وفية لنفسي وعند كلمتي، فلم أترك الكتاب من يدي إلاّ لدقائق إما للغداء أو لحاجة أكيدة أو للردّ على مكالمة هاتفيّة، و أتممت قراءة الرواية في مساء ذلك اليوم..

* رسائل مؤجلة * رواية، أجّلت قراءتها بسبب انشغالي بالحياة وأمور كثيرة، اكتشفت فيما بعد أنّها لا تستحق التأجيل،

أجل، فهي في منتهى الروعة، بناء،لغة، أبعادًا ومعنى، كتبت بحرفيّة وبإتقان الكاتب الكبير المتضلّع، المطّلع على الأجناس الأدبية المتنوّعة وله من الزّاد الثقافي والمعرفي ما يكفي لكتابة مثل هذه الرواية بإبداع متميّز وشغف واضح، ومحبة لفعل الكتابة ذاتها،

كيف لا، والكاتبة قد أجّلت كتابتها، ما يزيد عن الأربعة عقود، وإن كانت لها كتابات تسبقها، تتمثل في مجموعة قصصية ومجموعة خواطر في كتاب الكتروني ومساهمات في أعمال جماعية في الشعر والقصة والخواطر..

رواية * رسائل مؤجلة * للكاتبة فوزية البوبكري التي أجّلت كتابتها كلّ هذه الفترة قد تلتمسون لها العذر حين تتطلعون عليها وتعرفون حقائق ما يجعلكم تُكبرون في هذه المرأة هذا التحدي وهذا الصبر وهذه القوة، من أين لها بكلّ هذه العزيمة لتكتب ما تريد وما أرادت أن تكتبه منذ الصغر، وكيف جاءتها هذه الجرأة لتكتب ما كتبته بذلك الصدق والحب وبسرد جميل وجذاب ومشوّق وبتلك التفاصيل الدقيقة، حقا هي رواية ممتعة ورائعة..

أقولها بصدق، وأعي ما أقول وأتحمل مسؤؤلية كلامي ورأيي في الرواية التي انبهرت بها أيّما انبهار، وأستمتعت بقراءتها أيّما استمتاع، بحياتي ما شدني كتاب مثلها، وربما حصل، غير أنّ لهذه الرواية طعم خاص ونكهة خاصة، فيها ألف سبب وسبب لتجعل القارئ ينجذب إليها ويعجب بها، واستغرب لماذا رواية مثل هذه لا تدخل في المسابقات الأدبية، ولا تحرز على الجوائز، بل لو كان بيدي لكنت رشحتها لجائزة نوبل وسلمتها لها..

تقديم الرو اية ماديا:

صدرت الرواية عن دار الاتحاد للنشر والتوزيع سنة 2021 صورة الغلاف للفنان زبير المنذري، بنيّ اللون، ورد عنوان الكتاب واسم الكاتبة بالأبيض وجنس الأدب بالأصفر، الصورة تمثل كتابا كبيرا مفتوحا، في صفحته اليمنى خطّت رسالة من ثمانية أسطر موزعة على شكل قصيدة نثرية وفي أسفلها توقيع صاحبتها بالاسم المصغر، فوزية وإضافة عبارة الأم لها،

يقول نص الرسالة:

أحلامنا التي ظننا يوما أنها لن تتحقّق..

لم تخلف موعدها معنا..

هي فقط تعثرت بأرجوحة وقت غيمة

شتاء وبعثرة حرف..

ولكنّها ستأتي ذات صباح وستكون يوما

ما تريد..

 الأم.. فوزية

تجمل هذه الرسالة ثقة كبيرة بالنفس، وأمل أكبر، وتفاؤل بالغد وأنّ الأحلام، ستتحقّق وسيشرق صباحها مهما تعثّرت في هدنات الزّمن أو عطّلتها العراقيل، وستأتي مهما تأخرت وتحلّ بين يدي صاحبها كما رسمها وأرادها..

في الصفحة اليسرى وضعت لوحة زيتية فوق صفحة الكتاب لمشهد بحر تتمازج وتتماوج فيه الزرقة في تماهي مع زرقة السماء فتلتقيان عند خط الافق في المدى وتحجب صورة الكتاب بالاسود والرمادي حتى لا تظهر، هذا الازرق هو الجمال والصفاء والنقاء ويعطي الطاقة الايجابية لمن يتأمله بحرا كان أو سماء، لما يتميّزان به من اتساع و امتداد..

بين الصفحتين، في مستوى اتّصال الأوراق بالكتاب، وقفت امرأة رشيقة القوام، فاتنة المظهر، بفستان أبيض طويل، وشعر أسود صقيل، تنظر ناحية اللوحة التي على يمينها وتتأمّلها،..

علاقة ثلاثية الأبعاد لا يمكن حصرها في كلمات أو فكّ لغزها الا بسبر أغوار الكتاب، والاطلاع على ما روته الكاتبة لنتبين علاقتها بالكتابة والكتاب والبحر، وما يمكن تكهّنه من هذه الطمأنينة التي عليها الفتاة الواقفة في الصورة والتفاؤل في الرسالة المخطوطة ومنظر البحر والسماء الزرقاوان الجميلان، ما يمكن استخلاصه هو أنّ البطلة وصاحبة الرواية تبدوان منصهرتان فتبدوان شخصية واحدة تعتدّ بذاتها وتعيش أحلامها في سكينة وراحة بال..

في قفا الكتاب صورة نصفية للكاتبة بوجه مبتسم، منشرح، هادئ، وتعريف موجز جدا بها: اسمها، لقبها، مدينة مولدها، والأعمال التي صدرت لها، ثم مقتطف من فقرة جاء في ص 19 من الفصل الاول من الجزء الاول للرواية، يوحي باسترجاع ذكريات بعيدة لطفلة تركت اللعب مبكّرا للاهتمام بشيء اخر لا يروق لوالدتها والتي نفهم من هذا المقطع انها سليطة وجبارة من خلال الأوامر التي تصدرها على عكس ذلك يصلها صوت اخر تقول انه حبيب لقلبها واذنها.. من يكون صاحب هذا الصوت الذي تشير إليه يا ترى؟

تضمنت الرواية 305 صفحة، احتوت على تقديم غير طويل للناقد الدكتور حمد الحاجي، ثم توطئة قدمتها الكاتبة لروايتها شارحة علاقتها بالأحداث والشخصيات و تصرح أنها مراوحة بين الواقع والخيال، وان في هذه الحكاية ما يتصادم مع حكايتها وربّما حكايات اخرى، وتقول ان الاحلام لا تغادر أصحابها مهما كانت الوانها، وتبقى احلاما مؤجلة لا تكتمل،..

ثم يأتي نص الإهداء موجّها إلى أول حب في حياتها وهو والدها، الذي بنى لها شخصيتها، حفيدها غسان الذي جعلها تقتحم العالم الأزرق مما يسر لها الكتابة ومسك القلم، ثم شقيقتها فاطمة التي آمنت بقدراتها وشجعتها على نفض الغبار الذي تراكم على فكرها بنفخة، ثم واخيرا الى زوجها رفيق دربها الذي كان معلمها وعلمها الولوج إلى عالم التكنولوجيا

لا يوجد فهرس للرواية ما يساعد القارئ على معرفة عدد محاوره

إنما قسمت الكاتبة روايتها الى جزأين وجعلت لكل جزء تصديرا وفصولا.. 

الجزء الأول:

عدد صفحاته بعد حذف صفحات التقديم والتوطئة والإهداء 162، وعدد فصوله ثمانية، بعضها يطول ما يجعلها تجزئه الى فقرات قد تطول وقد تقصر هي الاخرى ويكون موضوع السرد في كل فصل حكاية تتناولها..

نصّ التّصدير:

" وأصعب معركة في حياتك عندما يدفعك الناس إلى ان تكون شخصا آخر " لوليام شكسبير

وكأنّ الرّوائية تريد القول أنها عانت في حياتها من قومها ما جعلها تعيش مرحلة صعبة أليمة لأنها تحياها اضطرارا وليس اختيارا وتلك هي المعاناة بعينها،

فهل تمهّد لنا السّاردة موضوع محاور روايتها وان كل الأحداث التي سترويها لم تكن باختيارها ولم تكن بدافع يصدر عن قرارها، بل بفرض من الناس الذين حولها فلبست جبتهم وما لبست هندامها،..

الجزء الثاني:

عدد صفحاته 132، عدد فصوله إثنى عشر بعضها يطول هي الاخرى فتتعدد فقراته وبعضها يقصر فيها فقرة واحدة لا تتعدّى ثلاثة صفحات، وتبدؤه بنص التصدير الآتي:

" الحياة أمل فمن فقد الأمل فقد حياته " لأفلاطون

هذا التصدير يجعلنا نفهم ان الكاتبة بالرغم من المعاناة التي تكبدتها في حياتها وحسب ما يوحي به التصدير الاول بسبب ان المجتمع فرض عليها ان تعيش حياة ليست حياتها، فهي تعيش على الأمل الذي لم تفقده حتى لا تفقد حياتها وهذا يدل على قوة شخصيتها وثباتها وصمودها في وجه العواصف والتيارات التي تحول بينها وبين السعادة،..

مضمون الرواية:

قلت ان الرواية راقت لي شكلا ومضمونا، بناء ومحتوى، شدّتني كثيرا ما جعلني أعجّل بإكمالها لمعرفة اطوارها، والكشف عن أسرارها، رواية أحسنت السّاردة جيدا حكيها، ببراعة افكارها، بمتانة لغتها، بحبكتها وطرافتها، وفطنتها.. أدركت جيدا كيف تنال من عقل القارئ، تختاله، تفاجئه، تروح به وتجيء دون ان تفقده تركيزه او تجعله يملّ لعبتها، فهي قد اتقنت شدّ حبال اللعبة، وراحت تحرّكها كما اردات هي ولا كما اراد السرد، وتبعناها باختيارنا منبهرين من بداهتها وقوة ذاكرتها وهذا الربط المتين العجيب بين ماض بعيد وحاضر قريب، الساردة متمكنة من أدواتها أيّما تمكّن، الأحداث راسخة في مخيّلتها كما لو حدثت البارحة، متشبّعة بكل المعارف ولها ثقافة واسعة، فهي مطّلعة على عدّة أجناس أدبية من فقه ودين وفلسفة وعلم اجتماع وغيرها، وهذا يدل على كثرة اطلاعاتها ومطالعاتها منذ حداثة سنّها، اذ تقول أنّ الكتاب كان ديدنها منذ تركت اللعب بالدمية مبكرا وهي مازالت طفلة، جاء في صفحة 19:

" كيف كان لعقل طفلة في السابعة من عمرها ان تحيل ظلام الليل نورا؟..

نورا تنسجه حول نفسها لتجعل منه عالما خاصا بها تبحر فيه من خلال كتاب.. "

وتقول في ص 21

" لم يكن بمقدور أحد أن يفهم عقلها وما يدور فيه من تساؤلات ولا ما وراء جلوسها لساعات في ركن من الغرفة تدقّق في ورقة ممزّقة من صحيفة أو من كتاب وجدتها ملقاة على الطّريق.. لا احد يفهم لماذا تخفي مثل هذه الأوراق بين ثنايا كتاب للقراءة أو كراس للمحفوظات.."

لا أريد أن أسد على القارىء متعة الإطلاع على الرواية وفقد شهية القراءة، ولكن سأبدي رأيي بصراحة في الشخصية التي جعلتها الساردة البطلة لأفكارها وساعدتها على استعراض مراحل عديدة من حياتها فقد كان الاتفاق بينهما واضحا والتخطيط محكما وخطواته ثابتة من اين ستبدأ وإلى أين ستمضي ومتى ستنتهي،..

الراوية جعلت بطلتها جالسة في مكانها على كرسيّ هزّاز وجعلت حركة بقية الأبطال التي تظهر في الرواية برغبة من البطلة التي لم تذكر اسمها في الرواية كان الحكي فقط على لسان الغائبة هي، وجعلتها تجذب خيوط لعبتها كما تشاء، تقحم الشخصيات كما ومتى تشاء، مرة تسترجع ذكريات ماض بعيد مضى عليه عقود اكثر من خمسة، فتتحدث عن جبروت والدتها والمجتمع الذكوري الذي ولدت فيه والعادات والتقاليد التي يفرضها على المرأة ورفضهم ان تكون متعلمة أو متحررة، وسلوكات بعض الجارات والعجوز وحكاياتها المفزعة التي ترويها لهم صغارا واشمئزازهم من تربية البنات، ومرة تتحدث عن والدها الرجل المثقف الحنون والذي كان الأقرب إليها من حبل الوريد.. واخرى تعود بالقراء الى حاضرها والعالم الذي أصبحت عليه بإقحام شخصيات جديدة مثل الحفيدة التي اختارتها أداة لتدخل بنا عالم الماضي وتفتح لنا صندوقها السري العجيب الذي ظل ملازما لها في كل الفترات العمرية وكأنها اختارته ليكون العقدة الكبرى ولتقوم بضبط حبكة الرواية، لا يمكن القول ان نمط تحرك الاحداث بطيء بسبب اختيار الكاتبة موقع بطلتها وهو غرفتها هذا العالم الضيق الذي جعلت منه عالما رحبا، شاسعا مليئا بالأحداث والشخصيات والأمكنة والأزمنة، فجعلتنا نقفز معها من فترة لاخرى ومن حدث لغيره، ومن موقف لنقيضه، وقد كثرت التناقضات فيه من عدة نواحي وجوانب وافكار وأشخاص وايديولوجيات، ولا ننسى تلك الحفيدة ايضا التي جعلت منها المنطلق لروايتها بتلك المقارنة التي أقامتها في التشابه في العمر والشكل والوصف والشعر والحيوية والذكاء والاسئلة، فجعلت حركة الاشخاص على عكس ما رسمناه سريعة متنوعة، متناقضة، وكثيفة..

ربما أرادت الساردة جعلنا نتأثر، برسم البطلة ضحية في بعض المواقف وقد نجحت في ذلك لعمري النجاح الكبير وخاصة في الفصلين الخامس والسادس من الجزء الأول للرواية ولا أخفيكم أني تاثرت لحال البطلة فبكيت لاجلها بمرارة ودون ان أشعر وتعاطفت معها، وهذا دليل على قوة الساردة في نصب الفخاخ ورسم الحبكة التي تريد أن تخترق بها قلب القارئ وجعله في صفّها وهذا يبدو عند قرارات القيمة بطردها من المبيت جورا.. وظلم والدتها وجبروتها وقسوتها في عقابها.. واستسلام والدها الذي كانت تعتبره الخيط الذي يرفعها وينقذها غير ان الحدث خرج عن سيطرته.. والخضوع لسلطة المجتمع وقراراته حتى ان كان جاهلا ومخطئا، فالفرد يقتدي بسلوكات المجموعة ويتأثر بها ويتقمصها وان كانت جائرة، ثم يأتي قرار تزويجها بطريقة تقليدية سائدة لا يناقش فيها كأنها ألواح منزلة من السماء..

تستسلم بدورها البطلة لهذه الاوامر والقرارات لنشفق عليها، تجعلنا نفكر ما مصيرها وقد نسبق الساردة لننشأ بقية الأحداث غير انها تجذب بخيوط اللعبة ككل مرة لتفاجئنا بمواقف تبهرنا تجعلنا نحب أكثر بطلتها ونتعاطف معها ونقف الى صفها ونكبر صمودها وقوة شخصيتها..

حسب رأيي، البطلة ليست في موقف ضعف بل هي في موقف قوة منذ البداية وهي التي تجعل بقية الشخصيات رهن اشارتها بحسب العلاقة التي ترسمها لهم فتقربهم متى تريد وتبعدهم متى تريد، تدخلهم متى تريد وتخرجهم من دائرتها متى تريد، فهي تعيش في كوكب خاص بها وجعلت من ذاتها المحور، الذي يدور من حوله الفلك وبقية النجوم، كما كانت البنت المدللة لوالدها الذي طوّعته لخدمتها..

فهي قابعة في غرفتها، على كرسيها الهزاز، لا أحد يزعجها في خلوتها، لها طقوسها، الكتاب في يديها،

وتدخل وتخرج حفيدتها اليها متى تريد..

وهي تخرج إليهم متى تريد..

تجعل والدها يرأف لحالها متى تريد..

تجعل والدتها تثور وتقسو عليها متى تريد، وتتقرب منها لتحدّ من عظم الازمة بينهما متى تريد..

تجعل زوجها يتنازل عن قول رأيه متى تريد.. فجعلته يصمت متى أرادت وجعلته يتحدث متى أرادت..

خبّأت امر الصندوق وسرّه وصمت زوجها في السرد وعدم مناقشته لها في أمور هامة.. ثم تكشف سرّ وسبب تحمل زوجها قرارها الجريء متى أرادت، فهل يقبل زوج ليلة دخلته قرار زوجته ان يعيشا في غرفتين منفصلتين دون ذكر السبب ودون بلبلة او فضيحة او طلاق، بل رأيناه يجري في حظوظها لارضائها، يوافق، وسجلها في الجامعة لتكمل دراستها وهي التي صدته عنها..

جعلت والدتها واهل خطيبها وخطيبها يصمتون عن قرار قص شعرها الطويل والذي قالت عنه في بداية الرواية انه تاج على الرأس فكيف تسقط ذلك التاج ولا أحد تكلم او عارض، ان في جعل البطلة تقص شعرها في يوم خطوبتها يدل على قوة شخصيتها، ورفضها للماضي وللعادات البالية ورسم نقطة بداية جديدة لها بطرد كل الاشياء السلبية التي قد تسبب في اكتئابها وفي قصّ شعرها في ذلك اليوم بالذات، شحن بقوة ايجابية كي تنطلق بمعنويات وطاقة جديدة ما يؤهلها لتكون سيدة الموقف والقرار دون قول ذلك، اختيارها للون الرمادي يوم خطبتها ورفضها ارتداء الفستان الوردي الذي اعد لها هو دليل اخر على قوة شخصية البطلة وتخطيطها بذكاء للوصول الى مآربها، جعل الاب يقف الى صفها بعد استسلامه امام سلطة المجتمع ويشترط على الزوج ان تواصل ابنته دراستها من بعد الزواج،

والامثلة كثيرة، وعديدة بالرغم من ان الراوية جعلتنا نركض خلفها ونسايرها ونتبعها بحسب ما خططته لنا بذكاء عجيب بل بدهاء المرأة التي تخطط للوصول الى غايتها وتحقيق ما تريد من أحلام رسمتها في ذهنها، بصمودها وصبرها وتجلدها وتضحياتها وتفانيها..

الخاتمة:

رواية رسائل مؤجلة رواية أكثر من رائعة، جمعت فيها الساردة تقريبا كل المتناقضات، تحدثت فيها عن عدة سلوكات وسلوكيات ونفضت الغبار عن بعض المسكوت عنه في مجتمعاتنا العربية الشرقية البربرية وبعض تقاليدنا الباهتة وبعض القرارات التي تصدر عن جهل وقلة وعي في مجتمع ذكوري نرجسي الرجل فيه يجعلونه محور الكون وتشارك في ذلك المرأة نفسها وعن رضى منها، فهي تستمتع بالرجل الماتشومان وتريد ان يمارس عليها سلطة الماتشيزم بخطة منها لتوهمه انه البطل والقويّ، في حين ان الرجل يتحرك بإرادتها وبقرارات المراة الذكية المسؤولة والتي تحددها هي وترسمها له،..

رواية " رسائل مؤجلة " تروي عدة رسائل في الحياة اختارتها البطلة المرأة بذكائها الخارق كيف لا وهي سليلة الكاهية البربرية وعليسة السومرية واروى القيروانية،.. والقائمة تطول،.. في النهاية هي المرأة التونسية والعربية التي حين تريد تريد، وتؤجل رسائلها متى تريد لموعد تحدده حين هي تريد..

فتحية شكر للكاتبة فوزية البوبكري التي جعلتنا نعيش أحداث روايتها بين واقع وخيال حتى خلنا أنّ القصة قصتها بل اوهمتنا أنها قصتها وأنها سيرة ذاتية لها بنسج محكم لحبكتها وبإمساك زمام خيوط لعبتها جيدا وتحريكها كما شاءت ومتى بإرادتها وفطنتها..

***

سونيا عبد اللطيف

تونس 17 / 01 / 2022

 

في المثقف اليوم