أقلام ثقافية

على خُطى ابن سينا

منير لطفيفي ميدان الحرف وعلى جسد القصيد، كثيرا ما وظّف الشعراءُ الطبَّ في شعرهم؛ فوصف المتنبّي إصابتَه بحمّى التيفود أو الملاريا في قصيدة ذائعة الصيت عنوانها (زائرة الليل)، وتبعه صلاح عبد الصبور حال تشريحه لاكتئابٍ عانى منه طيلة حياته، وأمل دنقل وبدر شاكر السيّاب في البوح عن عذاباتهما مع المرض العضال، وغيرهم من شعراء كثُر اعتصرتْهم  مؤخَّرا جائحةُ كورونا ففاضت قرائحُهم بشتّى ألوان الطيف الشّعري.

ولا ننسى ابن الوردي الذي لمز الطاعونَ بقصيدة عصماء كانت آخر ما كتبه قبل  وفاته بالداء ذاته، ونازك الملائكة المَدينة بالفضل لقصيدتها عن وباءٍ للكوليرا اجتاح مصر عام 1947م، وعدّها كثير من النقّاد حجر الزاوية في جدار مدرسة الشّعر الحرّ.

أمّا البحتري، فاستعار من الطب صورة جرح أُهمل وتعفّن، وصاغ من ورائه حكمة لا تخفى في بيتين قال فيهما:

إذا ما الجرح رمّ على فساد،

تَبيّن فيه تفريطُ الطبيب.

رزيّةُ هالكٍ جلبَت رزايا،

وخطْبٌ بات يكشف عن خطوب.

ومثله عنترة العبسي، حين رسم صورة ساطعة لشجاعته وفروسيته في الكرّ والفرّ، مستعيرا ألوان الطب وفرشاته، فقال:

وسيفي كان في الهيجا طبيبا

يداوي رأس مَن يشكو الصداعا

وعلى قول المثل الشعبي (كلّه سلف ودين)، وطريقة (خد وهات) التي تُعدّ أقدم وأبسط طرق التعايش بين الكائنات على وجه البسيطة؛ نجد الأطباءَ أيضا وظّفوا الشِّعر في متون تعليمية تحفظ علم الطبّ وتفسّره وتيسّره لدارسيه، وذلك على غرار منظومات عدّة صِيغت في  العلوم اللسانية والشرعية والعقلية والمعارف العامة، لينكبّ عليها الطلّاب كالأكلة على قصعتهم، ويستظهروها صغارًا كانوا في المدارس والمعاهد أو كبارًا في الجامعات والأكاديميات.

 ومن بين هذه المنظومات الطبيّة العديدة قديما وحديثا، علا كعب ابنُ سينا وحلّق نسرُه، فسجّل ريادته بقصيدة ملحمية تخطّت الألف بيت (1326) على بحر من بحور الشعر الستة عشر، سهل النظْم وشائع الاستخدام في المتون التعليمية، وهو بحر الرَّجَز، ومنه سمّيت أرجوزة. وقد فضّلها ابن زهر الأندلسي على كتاب (القانون في الطب) رغم موسوعية القانون وشهرته، فقال إنها تقوم مقام جملة كُتُب في صناعة الطب، وأَشتمّ – وبعض الشمّ وهْم- من مقولة ابن زهر انتقاصا من كتاب القانون أكثر من كوْنه مدحا في الأرجوزة؛ إذ قرأت أنه حمل حملة شنيعة على القانون ووصفه بأنه لا يساوي ما كُتب عليه من ورق أبيض!

 وقد تُرجمت الأرجوزة إلى اللاتينية في القرون الوسطى، وتناولها ابن رشد بالشرح، ثم تُرجمت إلى لغات أخرى عدّة وعالجها الكثيرون بالشرح وتناوبت عليها الرسائل الجامعية الأكاديمية، ولازالت ماثلة بيننا وشاهدة على استحقاق صاحبها لأوسع ألقابه شهرة وهو (الشيخ الرئيس)، أو (العقل الفعّال) كما سمّاه العقاد؛ استنادا إلى أنه فعل في الثقافة الإنسانية قصارى ما تفعله العقول..

وفي صدرها نجد توثيقا لعلاقة الطب بالشّعر فيقول:

والشعراء ملوك الألسن

كما الأطباء ملوك البدن

هذا يصون النفسَ بالفصاحة

وذاك يطبّ الجسمَ بالنصاحة

ثمّ يشير في أرجوزة ثانية عن التشريح، إلى الفائدة الجليلة للجلد كحارسٍ أمينٍ للبدن، فيقول:

"والجلد سورًا دايرًا على الجسد،

يحـجـبـه مـن الأذى إذا ورَد"

وفي محاولة جادّة لتبييض وجه المعدة التي وُصمت من قديم بأنها بيت الداء، يقول:

أقلّ ما يُؤكل في النهار

والليل مرّة من المرار

وأكثر الأكلات مرّتين

والأوسط الثلاث في يومين

وأَطِل زمان الأكل تستتمّه

ودقّق الممضوغ تستهضمه

وكلّ ما يأبى عليك قضمه

فإنه صعب عليك هضمه

 وبعده بنحو مائة وخمسين عاما، لحقه ابن طفيل الأندلسي صاحب القصة الفلسفية الشهيرة (حيّ بن يقظان)، وتلميذ المفسّر الكبير ابن عطية، ووزير دولة المرابطين والطبيب الخاص لأميرهم أبي يعقوب يوسف، وذلك بأرجوزة ألفيّة ثانية بلغت نحو7700 بيتا، موجودة بخزانة القرويين في مدينة فاس المغربية كمخطوطة فريدة لا ثاني لها، وفيها ينشدنا عن التهاب العين فيقول:

"وقد يَعرض الجسءُ  للأجفانِ،

مع وجــعٍ تحسّه العينانِ.

وحمرة وعسـْرة انفتاحِ،

عند انقضاء النوم في الصباحِ"

وقد سبقهما ابن عبد ربّه الأندلسي صاحب كتاب (العقد الفريد)، بأرجوزة من مائتي بيت (208)،  أصدرها المركز العربي للتأليف والترجمة بدولة الكويت، فحوت  مبادئ الطب ومباحثه في أسلوب سلس مرن جذّاب، منها ما قيل بخصوص جسّ النبض وفائدته في تشخيص الأمراض على النحو التالي:

والقلب إن جرى على القِوام،

في نبضه فالحال في سلام.

والنبض إن نبا عن المعتاد،

من طبعه دلّ على الفساد.

ودلّ بالخلاف في الأنباض،

على ضروب السقم والأمراض.

وعلى خطاهم جاءت منظومة في الفصد للطبيب والشاعر سديد الدين ابن رقيقة الشيباني، الذي عاش بدمشق في القرنين السادس والسابع الهجري، ومِن شعره في غير الأرجوزة، وردنا قوله الحكيم المترسِّل:

لا يغرّنّك من زمانك بِشْرهُ،

فالبِشرُ منه لا محالةَ حائلُ.

قُطوبُه طبعٌ وليس تطبُّعا،

والطبُع باقٍ والتطبُّع زائلُ.

ولعل أحدث ما كُتب من أراجيز، أرجوزة في التشريح من نحو ألف بيت، نظمها الطبيب السوري الشاب محمد جهاد حاكمي، ونشرها عام  2018، وفيها بسط منهج التشريح لطلّاب السنوات الأولى في كلية الطب، لا سيّما في سورية التي تتفرّد بتدريس الطب في جامعة دمشق بالعربية، ولعل العدوى تسري إلى بقية كليات الطب  بالجامعات العربية، وفي  فحواها وعلّة نظْمها يقول:

وبَعدُ فالتشريحُ علمٌ نافع،

لكل شيء في الجسوم واقع.

فإنه الأساس في الجراحة،

وأوّل العلوم في الدراسة.

لأجل ذا نظمْتُ في التشريحِ،

أرجوزةً في غاية التوضيحِ.

ضمّنْتثها ما جاء في الأجسام،

من كلّ عضلاتٍ ومن عظام.

أوعيةً أضِف ومن أعصاب،

فصُغتُها إلى أُولي الألباب.

بواضح المعنى وقرْب اللفظ،

حتى تكون سهلةً في الحفظ.

أرجو بها أن تنفع الطلّابَا،

والأجرَ والقبولَ والثوابَا.

وهنا نلحظ أن هذه المنظومات وفّت بحقّ المظهر الخارجي للشِّعر المتمثِّل في الوزن والمعنى، ولكنها قصّرت تجاه شاعريته الداخلية الكائنة في جمالية التخييل وبراعة التصوير، وهو واقع فرضتْه المادة العلمية الجافة والباردة، ولا حيلة للمُضطر سوى ركوب الصعب.

***

بقلم د. منير لطفي

طبيب وكاتب - مصر

................

  يقال جَسَأ الشيء، أي صَلُب وخَشُن

 

في المثقف اليوم