أقلام ثقافية

في المقاومة حياة

درصاف بندحرأن يجد الإنسان هدفا لحياته في أقسى لحظات الألم والمعاناة هو الوسيلة الوحيدة للنجاة، لمواصلة الطريق.

العالم النمساوي فيكتور فرانكل (1905-1997). هو الطبيب الذي اعتقله النازيون وهو في الثلايثنات من عمره، ووضع في معسكرات للتعذيب، وجد نفسه، مجردًا من كرامته الإنسانية، متعريًا.

والداه وأخوه لقوا حتفهم في معسكرات أو أرسلوهم إلى أفران الإعدام بالغاز. كل أسرته عدا أخته هلكت في هذه المعسكرات.

وفقد حينها زوجته الحامل وعاش ظروفا صعبة حيث حبس في معتقل (اوشفايتز).

وحسب موسوعة الهولوكوست يعد مجمع معسكر أوشفاىيتز الأكبر من نوعه لتنفيذ الخطة النازية من أجل "الحل النهائي". يقع معسكر أوشفاىيتز في بولندا التي كانت تحتلها ألمانيا، ويتألف من ثلاثة معسكرات بما في ذلك مركز للقتل. وبقيت المعسكرات مفتوحة على مدى عامين تقريبا، 1940-1942. أغلق أوشفيتز في يناير 1945 عند تحريره من قبل الجيش السوفياتي.

أغلب من كانوا مع فيكتور فرانكل جُنوا لكنه بقي صامدا، بل وكان معينا لمن معه ومساعدا لهم على الصمود في ظل الاعتداء والتنكيل.

ما كان السر في تلك القوة برغم الجوع والبرد والبشاعة، بالرغم من توقع الإبادة في كل ساعة؟

أوجد فرانكل لحياته معنى تمسك به وجعله يجد في الحياة ما يجعلها جديرة بالبقاء.

فرانكل هو نفسه صاحب المدرسة النفسية الشهيرة"العلاج بالمعنى"، الذي يُطلَق عليه اسم logotherapy، جاء من لفظة logo، وهي كلمةٌ يونانيةٌ يُقصَد بها المعنى.

هذا العلاج يهدف إلى تشجيع الفرد على إيجاد معانيه الفردية الخاصّة. وهو أحد أساليب العلاج النفسي الوجودي المُوَجّه. يركّز على جانب الفرد الروحي ومعنى الوجود الإنساني.

 المقصود بالمعنى هو ما يتجاوز النجاح والسعادة واللذة وتحقيق الذات لأنها كلها ماهي إلا آثارا لتحقيق المعنى.

يعتمد العلاج على فكرة أنه إن كانت المعاناة جزءا لا يتجزأ من الحياة، فهناك معنى لها. وعندما تكون معاناة الشخص ذات معنى، فلن تبقى هذه المعاناة مزعجةً للفرد.

في هذا كتب فرانكل 29 كتابا، بحث عن المعنى في قلب المأساة، لم تستطع سجون النازية أن تنتزع منه إنسانيته، ولم تمنعه إبادة كل أفراد عائلته من الانشغال بإيجاد سبب يحيا من أجله.

 

 

لكلّ منا محنته الخاصة التي أثقلته واعتبرها أشدّ ما مرَّ عليه.

.قد تضربنا المحن وتزعزعنا، تهز كل ذرة في كياننا. يحصل أن نستسلم لها حتى توشك أن تردينا.

صحيح أن الإنسان جبل على الضعف وما أسهل أن يغرق بفعل المحن التي تعترض طريقه في هوة سحيقة من الاكتئاب.

لكن هل هذا هو الحل الأمثل في مواجهة خطوب الحياة، في التعاطي مع الإصابة بمرض خطير، في فقد حبيب أو قريب.

هل من المسلم به أن ننهار عند خسارة عمل أو أمل؟

ليس من الضروري أن نواجه هذه المحن بالفرح والابتسام. لكن المعنى هو أن لا يستغرق منا الحزن والألم وقتا طويلا. أن تغادرنا المحن ونغادرها بعد أن نعطيها الزمن الذي تستحقه في الاستكانة إلى تأثيرها علينا. مهم أن تأخذ الأتراح كما الأفراح حيزا من وقتنا ولكن الأهم من ذلك هو أن نمضي بعدها ونحن غير مشتتي الذهن، غير مهزومين.

في رواية "كافكا على الشاطئ" يقول الروائي الياباني (المولود سنة 1949) هاروكي موراكام "...لحظة انتهاء العاصفة، لن تتذكر كيف تدبرت أمرك لتنجو، ولن تدرك هل انتهت العاصفة أم لا.

ستكون متيقناً من أمر واحد فقط: حين تخرج من العاصفة، لن تعود الشخص نفسه الذي دخلها، ولهذا السبب وحده، كانت العاصفة."

إن التمعن في هذا القول يجعلنا ننظر نظرة إيجابية إلى تلك العواصف التي نمر بها..تلك العواصف التي لم تقض علينا ولكنها لم تترك لنا سوى خيار واحد هو الصمود.

الذين صمدوا في وجه الاهتزاز ..الذين لم يطرحهم الأسى أرضا هم بالتأكيد من تمكنوا من العبور إلى مستوى رفيع من الوعي فهموا من خلاله ذواتهم وعدلوا نظرتهم إلى الآخر

..إلى الوجود عامة. هم من فهموا أن العبرة ليست في خلو الحياة من المصاعب بل في خلوها من الآلام . تلكم الآلام التي تجعل الإنسان يطلب المعنى ويستمرئه. حينها سيتوصل إلى فكرة أن ما يستحق البكاء عليه فعلا هو فقدان المعنى.

صحيح أن المصاعب والمصائب تغيرنا..صحيح أننا نجد أنفسنا مختلفين عما كنا عليه قبلها.

ولكن من المؤكد أن هذا الاختلاف هو ما يفاضل أحدنا عن الآخر.

في هذا يرى فرانكل أن الدافع هو أن يجد الإنسان معنى لحياته، والإنسان يمر بهذا البُعد المعنوي فقط عبر التسامي عن الظروف المحيطة التي لا يتمكن من تغييرها، لكنه يتمكن من تغيير وجهة نظره تجاهها.

ولكن بعد انتهاء النوائب بكل ما عانينا خلالها من ألم وصراع،

هل نعبر منها سالمين معافين؟

ونحن نتعامل مع الناس نلاحظ جليا الفرق بينهم فيما يتعلق بأثر تجارب الحياة بكل خطوبها على ملامحهم..على طريقة حديثهم معنا..طريقة تفاعلهم.. مواقفهم.

من الناس من ينضج في غضون تجربة أليمة فينهض شامخا، ومنهم من لا يستطيع النهوض من عمق انكساره فينطفئ ويخبو.

إذا لم تهزم أمام المصائب فقد فهمت أن ليس كلّ كسر يُنهي حياتك. أنك استطعت أن تجعل من انكساراك بداية لانطلاقة جديدة، جديرة بالتثمين، بالنظر إليها على أنها أجمل ما حصل لك. لولا هذه الإنكسارات لما تمكنت من التدرب وتجربة قدرتك وإمكانياتك على المقاومة. هذه المقاومة هي التي ستحدد شعورك بجدارتك وبقيمتك.

تقول الفيلسوفة" سيمون فايل" (1909-1943):

«ما يعلو بإنسانٍ إلى مرتبة القداسة هو بؤسه الذي يتجاوز كينونته وأناه ليشمل العالم أجمع...».

فعلا وجه الاختلاف بين الناس هو هذه القداسة التي تضفيها التجارب القاسية على البعض..قداسة تجعل منهم أناسا استثنائيين وتجعلنا ندرك أن هناك شيئا في الإنسان أكبر من الإنسان نفسه ..هو قدرته على أن يجعل لحياته معنى.

أن تجعل في حياتك معنى هو شكل من أشكال المقاومة لحالة اليأس والبؤس والحمق التي أصبحت سمة من سمات العصر. عصر طغت فيه النجاعة على القيمة. عصر لم يعد فيه من المهم لدى الإنسان سوى أن يكون مستهلكا.

***

درصاف بندحر - تونس

........................

* المرجع

كتاب الإنسان يبحث عن المعنى لفيكتور فرانكل 

 

في المثقف اليوم