أقلام ثقافية

هوسُ الكتابة

خيري حمدانبقلم: فالنتينا رادينسكا

ترجمة وتقديم: خيري حمدان

***

ولدت الأديبة فالنتينا رادينسكا في مدينة سليفن البلغارية، أنهت دراستها الثانوية عام 1969 وتابعت دراستها العليا في المعهد العالي "مكسيم غاركي" في موسكو المختصّ بدراسة الآداب. عملت في مجال الصحافة والتحرير لدى العديد من دور النشر وساهمت بكتابة سيناريوهات الأفلام السينمائية لصالح استوديوهات "بويانا" الشهيرة التي تساهم حاليًا على إخراج الكثير من أفلام هيولوود. تنظم دورات في مجال الكتابة الأدبية منذ العام 1996 في جامعة صوفيا. حمل ديوانها الأول عنوان "شخص يسير تجاهي 1977"، تبعه ديوان "كتاب للمساء" الذي صدر في نسختين عام 1983، 2004، ديوان "لا" عام 1988 وغيرها من الأعمال الشعرية. ترجمت أعمالها للإسبانية والإنجليزية والألمانية والهنغارية والتشيكية، هذه أولى الترجمات للغة العربية.

اخترنا مقاطع من كتابها "مدوّنات نابعة من القلب" الصادر عام 2021 وبعض القصائد من ديوانها الأخير "الصمت عن الشتاء". 

Користни записки - откъси

دوّنت أفكاري في البداية بالنقر بإصبعين على طابعة والدي قبل كتابتها بخطّ اليدّ وما زلت حتى يومنا هذا أطبع بإصبعين قط.

استعنت بهذه الطابعة حتى افترق والداي، أخذ أبي الطابعة وبقيت وحيدة من دونها. أبقيت على عادة النقر بإصبعين، وغالبًا ما كانت تتشابك مثبّتات الأحرف المتجاورة عندما أضغط عليهما معًا لتعلق في الهواء. أنجح أحيانًا بتحريرهما وغالبًا ما أفشل في هذا المسعى، عندها يغضب والدي وفي الوقت نفسه يفرح من أجلي.

عليّ الاعتراف بأنّني لم أكن طفلة ماهرة وأفشل باستخدام يدي بمهارة كما الآخرين، وعانيت كثيرًا خلال ساعات التدريب المهني. كنت غير قادرة على الرسم أو استخدام الباستيل لصنع هيئات لحيوانات مختلفة أو تجهيز أشكال متنوعة من الورق، مثل فرقة رقص شعبي يمسك أعضاؤها بأيديهم. 

يا إلهي، حاولت أيضًا تعلّم وإتقان بعض المهارات الأنثوية كحياكة مربّعات مزيّنة بصلبان، ثني الملابس وحياكة أطرافها بإبرة ونسج الصوف وغيرها. وبذلت والدة جدتي ماريا المعروفة بيننا باسم ميكا، كلّ جهدها لتعليم بنات أحفادها النسج اليدوي ونجحت في هذا المسعى. ميكا بالمناسة امرأة ضئيلة الحجم لكنّها صارمة للغاية. أنا الوحيدة التي كانت تصفع يدي وتصيح بي دومًا بنفس العبارات "لا تمسكي أعواد النسيج كأنّها أسافين!". وأنتظر بدوري هذه الكلمات لأرمي بها بعيدًا أماثل الشعور بالإهانة، ثمّ أسارع بالذهاب إلى طابعة والدي. هذا ما كنت أتقنه - الكتابة على الطابعة وبإصبعين فقط.

بعد سنوات طويلة من التمارين الصعبة، تعلّمت نسج الصوف. الحاجة والإرادة هي أسباب النجاح. عدا عن كتابة القصائد انشغلت بنسج الصوف لمكافحة الكآبة واليأس بالأعمال اليدوية. أذكر أنّ ديل كارنيجي وهو رجل ذكيّ للغاية قد ذكر في أحد كتبه: اشغلوا أنفسكم، فهذا أمر مفيد للغاية وفي الوقت ذاته يعتبر أرخص دواء في العالم. استمعت لكلماته، نسجت بضعة كنزات جميلة من الصوف، وتمكّنت أيضًا من استخدام مجموعة متنوعة من خيطان الحرير لإنجاز كنزة خاصّة أهديتها لستانكا لأضاهي بذلك المهنية القديرة إليانا كامبوروفا. وعندما توفي طفلي قررت القيام بالعمل الذي لا أتقنه إطلاقًا وهو الرسم.

ذهبت إلى مكتبة "هيليكون" وبحثت عن كتاب "تعليم الرسم الذاتي". عثرت على كتاب واحد فقط أميركي بعنوان "تعلّم الرسم بالباستيل". هذا أفضل بكثير، تخيّلوا لو أنّي عثرت على كتاب لتعليم الرسم بالألوان الزيتية! على سبيل المثال، أخبرتني إحدى الصديقات المبتدئات بفنّ الرسم ضرورة انتقاء ورق خاص بوزن محدّد ونوعية أقلام رسم، وماركتها والأصباغ والفرشاة وغيرها من التفاصيل، وتراني أجلس مخرجة لساني يترصّد أحدنا الآخر أنا والأصباغ اللعينة التي لا أطيقها وأكرهها منذ نعومة أظفاري لأنني قادرة على سكب الأصباغ المائية كيفما اتفّق ثمّ أستخدام الإسفنج والورق لامتصاص السوائل الملوّنة، وأقرأ في كتاب التثقيف الذاتي (المعدّ لتعليم حتى الأغبياء) ما يتوجّب علي القيام به. هكذا تمرّ الساعات من دون أن أشعر بثقلها ووقعها مستغرقة بهذا الفنّ الذي أجهله ولا أفكّر خلال الانهماك به بأيّ شيء آخر، نعم هذه طريقة جيّدة للعلاج.

رسمت 6 – 7 لوحات الواحدة منها أسوأ من الأخرى. يظهر في إحداها فارس يرتدي واقي أمطار أصفر اللون ويبدو الحصان بحجم مِعْزَة في مكانٍ آخر، لكنّي لا أظنّ أحدًا سيهتم بهذه التفاصيل! قدّمت لوحاتي هدايا وبكلّ وقاحة في أعياد ميلاد أصدقائي. وهم والحمد لله متفّهمون ويمتلكون روح الفكاهة وتقبّلوها باعتبارها لوحات نادرة للغاية. وأحتفظ حتى الآن بلوحة زهر البنفسج. أمّا اللوحة قبل الأخيرة فقد تجرّأت لتقديمها هدية لصديقة عزيزة على قلبي، فنانة تشكيلية شهيرة ومحترفة وهي بدورها فاجأتني بلطفها، ودمعت عيناها لهذه المفاجأة غير المتوقعة. هكذا أثبتّ لنفسي بأنّي قادرة على تنفيذ بعض المهارات بيدي اللتان غالبًا ما ترفضان الانصياع لإرادتي.

الحقيقة أنّ أهمّ الأشياء التي أقوم بها بهاتين اليدين هي الكتابة، الموهبة التي أتميّز بها عن غيرها.

والقصائد هي الشيء الوحيد الأوحد الذي أهتمّ وأعتني به مثل روحي وأكثر، إنّها العلاقة الخالصة ما بيني وبين الخالق. أرجو ألا يبدو بوحي تعاليًا بل هو حقيقة مشاعري وما يعتمل في نفسي، هذا ما شعرت وما أزال أشعر به تجاه شِعري كجزء من مسؤوليتي التي أتحمّلها بل أعتبره نذر وقَسَم قطعته على نفسي ولن أحنث به أبدًا.

أشعر بالندم فقط أمام القصائد التي لم أكتبها كأنّي تجاهلت مخاطبة الخالق.

***

إلهي، شكرًا لأنّكَ منحتني الموهبة والقدرة على نظم الشعر. أشعر بأنّك عوضتني بهذا عن كلّ الحرمان الذي تذوقته وعرفته. عوضتني عن خساراتي وهزائمي وانكساري والأخطاء الكبيرة التي اقترفتها ويصعب غفرانها. شكرًا لأنّكَ حوّلت وحدتي لمكان عمل وبيتًا لصمتي. حولته لفضائي المكفول المتكامل حيث تبنت المفردات.

يراودني الشكوك أحيانًا، ما حاجتي لكلّ هذه الوحدة؟ وحدة مطلقة أرتمي في أحضانها بعيدًا عن تطفّل الآخرين. وحدي مع نفسي وأفكاري بمنأى عن أيّ حضور بشري.

* * *

بعد تجربتي الطويلة مع كتابة الشعر أجزم أنّه يُكتب خارج إطار الحياة. تستاق القصائد الدوافع من الحياة، من حدث معيّن مدفوعة بعاطفة ما، لكن كتابتها يصبح حقيقة خارج وفوق معايير الحياة، في فضاء محميّ يتحوّل فيه الشاعر إلى ثلاثة: هو والكلمات والإله الذي يمليها..

لكنك لا تدرك ذلك على الفور.

***

في البداية لم أفهم ما يحدث، أستلقي خلال العطلة الصيفية على بطني فوق فراش خشن للغاية في الشرفة الزجاجية للمنزل الذي استأجرناه في مدينة سليفن وأكتب، أكتب بقلم الرصاص في دفتر كبير بلولب معدني في أطرافه. لا أذكر ما كنت أدوّن آنذاك والدفاتر غالبًا ما تضيع خلال رحيلنا وتنقّلنا من بيتٍ لآخر، لكنّي أذكر جيّدًا إصراري على مواصلة الكتابة وهذا خارج عن إرادتي وكفى..

الرغبة بالكتابة أقوى من أيّ إرادة أخرى. أكتب وأكتب ولا أدري ماذا أفعل والمعنى الكامن لما أقوم به، لكنّي أدركت لاحقًا أنّه من غير الضروري أن تعرف كيف تُنجزُ الأمور ما دمت قادرة على القيام بها ببساطة. 

***

Виж – идва снегът

أترى - الثلجُ آتٍ، هكذا مثل القصيدة

ولستُ في عجلة من أمري يا حبيبي، بل هي روحي المستعجلة

أن تصلّي في غابة من العبارات غير المكتملة

حتى ينجح مسعى العاصفة - أن تربط نهاري بعقدة.

*

أنظرْ كيفَ تبيضُّ كلّ مكوّنات الهواء الشفّافة..

لا تطلب منّي الكثير فأنا لا أقوى أن أحوّل النورَ إلى عتمة

وتراني أضغطُ أسناني ثانية فأنا لا أقوى على البكاء

والكلمات الساكنة المكبوتة تخزّني قبل أن أبتلعها!

*

أنا محاصرة كأنّي وقعت في كمين الذكريات

حلّ كانون الأول ثانية، وأفتقدك، أفتقدك حدّ الوجع.

أنظرْ، يخطّ الشتاء كتابه عن اليأس، عن الإحباط

وأنا مجرّد تلميذ يغشّ بحسن نيّة..

**

От огън на огън

من نار إلى أخرى، أحاول أن أدفّئ قلبي المتجمّد

كأنّي سارقة لنيران غريبة عنّي أتدفّأ خاطئة

وأختبئ بريئة في ظلال العتمة الصامتة

ومن حمّى الوجع أستنبط الكلمات، وقد عشتُ دومًا لأجلها.

*

والحياة مرّة المذاق، يبدو لها البرد بلا ذاكرة..

مجدّدًا أنا سارقة وجذوة النار في عينيّ تتوهّج.

تذوب في باطني وتترسّب الوحدة فيّ كالرصاص

وتُفتحُ أبوابي ودمائي تفور ثانية.

*

أنت، يا خريفي، يا صاحبي الحزين، يا رفيقي الحنون صعب المنال

دَع هذه السارقة بالقرب من النار فقد لاح في الأفق ضباب..

وستترك هناك قلبها لتغنّي حوالي الرماد البارد

فيما بعد، تغنّي بسكينة من دون ألم.  

***

 

في المثقف اليوم