أقلام ثقافية

تأمّل يا صاحبي ذاك اَلفنان الخبْزي؟؟

نجيب طلالمبدئيا؛ وعلى ضوء المستجدات في المجال الفني والمسرحي؛ بعد إزالة الغمة عن فضاءات الإبداع؛التي خلفها الفيروس اللعين (كوفيد) حاولنا تحيين هاته المقالة؛ لمدى أهميتها في المشهد المسرحي؛ والذي أمست تسترسل عليه مئات التساؤلات ووضع علامات الاستفهام الكبرى فوقه؛ أمام زمن التضحية والنضال الحق والحقيقي؛ وتمظهر المبادئ الصادقة والمفعلة بتفعيل وتصريف التموقفات سواء الإنسانية أو الاجتماعية أو الإيديولوجية؛ كان مسرح الهواة نبراس الثقافة المتميزة والفاعلة بالتفاعل الجدلي بين الإبداع والفكر والإيديولوجيا؛ رغم محاولة التدجين وممارسة الإقصاء في حق العديد من الفعاليات والجمعيات المسرحية، من لدن الأجهزة الوصية معية بعض المنتسبين للميدان، والذين ساهموا بشكل كبير في محاولة تمييع المشهد الإبداعي و الثقافي والفكري؟ وهذا كنا نشعر به؛ وكانت هنالك فعاليات تقاوم هاته الانحرافات والانزلاقات التي كانت  تتحرك بين الحين والحين في المشهد؛ لكن انكشفت فيما بعْد؛ وازدادت حدتها حينما هرولوا نحو فتات (الدعم) كأنهم في زمن المجاعة ! مقابل هذا كانت هنالك جمعيات شبه (محترفة) ولكنها لم تكن مسطحة ولا تنتج التفاهة والرداءة، رغم أن التيارات اليسارية سواء المعتدلة أو المتطرفة كانت تمارس التحامل الأهوج ضد أعمالها و تكيل لها نعوتا قدحية وتتهمها بممارسة وتمرير ايديولوجيا الاستسلام  أو التدجين بل بالعكس؛ نحن اليساريين الذين كنا على خطأ فادح؛ أمام الجبهة التي كانت تعتبر (يمينية) فعلى سبيل (المثال)؛ إذا قمنا بقراءة جذرية للعَديد من أعمال المبدع  قيد حياته[الطيب العلج] وتفتيت الواقع الثقافي والسياسي والأمني والعلائقي؛ على ضوء ما في تلك الأعمال؛ سنكتشف حَدس الواقع وحركيته يتحكم في ملكة الإبداع، ثم فإن ثقافة المجتمع، هي صورة عكسية لما تحمله تلك الأعمال الدرامية. وهذا موضوع يطول شرحه؛باعتبار أن المسرح  أو الإبداع بشكل عام هو بمثابة الرئة التي تسمح لنا بالتنفس، بخاصة وأنه فسحة للتعبير عن داخلنا ودواخلنا وعن الواقع الخارجي كذلك. لأن الفنان الحقيقي هو الكائن الوحيد القادر على فهم الواقع ومحاولة رسم مستقبل مشرق قابل للتحقيق. والذي يحتاج للشرح أكثر:إيمانا بأن الفنان بشكل أو آخر يُشكل صفوة المجتمع؛ ويحظى أساسا بإعجاب متميز وخاص من عموم الناس، فلماذا لم تعد للفنان المسرحي؟ همة وقدرة فعالة؟ لمساندة لما يجري في الواقع  المعاش؟ من أحداث بشعة ومريبة وقضايا تمس الإنسان البسيط والمقهور بالدرجة الأولى ؟ إنسان يحتاج للدعم وإسماع شكواه  وهمومه؛ لذوي الحل والعقد؛  باعتبار أن الفنان المسرحي هو لسانه؛ كالإعلامي  الذي هو قلمه؛ في معاناته . أليس الفنان صوت الشعب؟ كان؛ ولكن الملاحظ (الآن) إنها شعارات  فارغة  لدغدغة مشاعر الجماهير؛ لتمويه أن الفنان عضو فعّال في تطوير وتغيير المجتمع ومحيطه؛ وذلك من خلال دوره المؤثر عَبر تصريحاته ومؤازرته وخطابه أو نضاليته؛ لتحقيق علاقة تبادلية بينه وبين الإنسان المقهور؛ نحو بناء عدالة اجتماعية لقضاياه ! فكم من أحداث وقضايا جسام؛ ومن الصعب سردها هاهنا. تحتاج لصوت الفنان؛ الذي هو أساسا مثقف حسب منظور غرامشي؛ بحكم أنه ينتج المعرفة وينشرها بالضرورة؛وأن يجهر بها؛ ولكن استكانوا في جحورهم؛ ينتظرون الدعم؟ وذاك الدعم ما هو بآت؛ لأن فيروس (كورونا) غير معالم المعطيات السياسية والاقتصادية؛ بعدما انساق (ذاك) الفنان وراء التفاهة والابتذال وساهم بدور فعال في تمريرها وتزكيتها باسم الإبداع المسرحي .وبالتالي فذاك الفنان / المثقف لم يعد ذاك: المتمتّع بالصفة التمثيلية- إنسان يمثل بوضوح وجهة نظر ذات طبيعة ما، ويعبر بجلاء لجمهوره عن تلك الأفكار التي يمثلها. برغم كل أنواع العوائق…إن المثقفين أفراد عندهم استعداد الفطري لممارسة فن التعبير عما يمثلون؛ سواء كان ذلك قولا أم كتابة؛ أم تعليما أم ظهورا على التلفزيون وذاك الاستعْداد هام إلى درجة أن من الممكن تمييزه على رؤوس الأشهاد (1) لكن السؤال الجوهري؟  لماذا لم يعُد الفنان المسرحي(تحديدا)؛ ذاك الكائن والصوت الإيجابي؛ والمحارب للظواهر الاجتماعية السلبية؛ والتي يتعرض لها المواطن في موقع ومكان؛ والكاشف للانحطاط القيمي، الذي حَوَّل المجتمع وأغرقه في الإسفاف وقلة الحياء؛ وانجر إلى الدرك الأسفل؛ وإلى براثين الابتذال والتفاهة؟

إنه لمؤسف أن يصبح بوقا رخيصا لهذه الجهة أو تلك؛ لأنه لم يعُد يعرف فكرة النضال الفني/الثقافي. ولاسيما أن أغلبهم لم يحتك في الجمعيات المسرحية؛ والتنظيمات الشبيبية والحزبية، ولم ينخرط في زمن الصراع؛ ولكن الأفظع؛ ذاك الفنان الذي كان مؤدلجا بهموم الجماهير ومتحزبا ومنخرطا في معمعان قضايا مجتمعه؛ تخلى عن دوره ومهامه؛ فأين الذين كانوا يمطرقون المسرح بشعارات: ك(الحمل على العاتق) فن (المهووسين) (الملسوعين) مسرح (الكادحين) شريحة (البروليتاريا)؟؟ فالأغلب الأعم يلهث وراء المال؛ رغم أنه ميسور الحال؛؛ فهل الفنان الذي يتوفر على ضيعات؟ودور للسكنى؟ومقاهي داخل البلاد وخارجها؟ وأراضي زراعية؟...(اللهم لا حسد) وبالتالي أي منطق؟ وأي عقل؟ يفسر لنا أن ذاك (الفنان) يعرض نفسه طارقا أبواب بعض الميسورين؛ لإمداده برصيد مالي ! وبهذا يستغل المرء اسمه وشهرته ويعرضها للتسفيه المبطن؛ وهناك من يعرض نفسه في المحلات التجارية بأسلوب ذكي؛ كأنه (يتسوق) و باتفاق مع مسؤوليها لاستقطاب الزبناء من أجل دريهمات؛ يعتبرها كغنيمة حرب، وأصلا هو في غنى عنها؛ ناهينا عن التهافت نحو الإشهار(التلفزي) والبحث عن الرِّيع، بشكل مفضوح و عليه بنوا حياتهم، و ظنُّوا أنه مجد، فيما هو أكبروهْم، لا غير ! ولقد تمظهر الفنان الخبزي في العقود الإخيرة؛ وخاصة بعد التهافت المقيت نحو(الاحتراف) والجري وراء(1- في/مئة) والانقضاض بدون شرعية قانونية نحو الدعْم وماجاوره ... هانحن قبل اليوم نشهد انكماش الأصوات وشلل في حركية الفئتين معًا. لأننا أصبحنا أمام فنان خبزي؛بدرجة مئوية عالية؛ وليس أمام فنان مبدع ! فنان خبزي يتهافت من هنا وهناك على لقمة العيش رغم أن له الكفاية: من حقه؛ وَ لا خلاف على ذلك . لكن مع استحضار قيمة الفنان المبدئي، الفنان الإيجابي؛ الفنان التنويري؛ الفنان الإصلاحي؛ الفنان الجماهيري؛ الذي قلبه وضميره على المستضعفين من الناس؛ وضدَّ ضروب التجهيل والاستعباد والقمع؟ بحيث: فالمثقف ليس أيديولوجيا وحسب بل هو محترف فكر(أو صاحب حرفة عقلية) ومحترف إبداع وابتكار ثقافي وفني . ولذلك تأتي دراسة الوظيفة الفكرية على تماس مع تحليل الإيديولوجيات وتحليل علم اجتماع الوظائف (2) لكن المؤسف جدا اليوم، ترى ما الذي جرى للفنان المسرحي؟ بدون مواربة أو البحث عن تخريجات وهمية؛ فالفنان وهنا نضعه بين أقواس فذاك (الفنان): في بلادنا أمسى سجين الدعم (الفتات) ذو معايير غامضة و مبهمة ومشبوهة، والتي كانت تقدمه بعض مؤسسات الدولة. وأضحى ذاك ((؟)) مجرد تابع للجهات التي ترشه ببعض الهبات والمنح؛ وخاصة (الآن) وزارة الثقافة؛ التي أمست هي المُشغِّل . وهاته الحقيقة انعكست على أغلب المسرحيين العرب بدون تمييز أو تنعيت لقطر دونما آخر. وخاصة بعد حث دفتر التحملات على إنشاء المقاولات والشركات والجمعيات الفنية/ المسرحية؛ مما أفرز المشهد (الفني) شرذمة من الطفيليين وعديمي الموهبة، لا هدف لهم  سوى الانتهازية البغيضة ! والبحث عن منافعهم الشخصية؛ بشتى الطرق والوسائل طبعا(الآن) نعيش في عصر رأسمالي/ ليبرالي؛ والذي يشرع أبوابه للسوق وللمضاربات؛ لكن المفارقة أن  إقامة الرأسمالية في ظل وجود قيود أو اختناقات«!» ديمقراطية، فلا يَنتج عنه سوى المحسوبية والشِّلَلية والعصابات وإدارة دفَّة الحكم من أجل طبقة غير ظاهرة للعيان، وغير مسئولة أمام مجالس نيابية وأمام صحافة حرة في نقدها وكشفها وأمام قضاء له الحق الكامل في إدانتها إذا أخطأت أو غشَّت أو دلَّسَت أو تهرَّبَت أو سرقت، نحن قد جعلنا من الانفتاح رأسمالية بدون قواعد اللعبة الرأسمالية الكاملة (3) وبالتالي فأغلب الفنانين أصبحوا خبزيين؟ وأي نقاش خارج الخبز/ المال ! فهو مردود؛ طبعا لن نكون طوباويين ومتشددين؛ لنؤكد جميعا بأن الواقع الاجتماعي والاقتصادي؛ يفرض نفسه ويدعو للجري وراء لقمة العيش؛ ولكن من باب الإيمان بأهمية المسرح في حياة الشعوب؛ فهو بمثابة الخبز؛ باعتبار أن الخبز رمز للعيش والحياة؛ فكذلك الفن/ المسرح. وهذا لا يمكن كذلك أن نختلف فيه  .ووجه الاختلاف بان المسرحي بشكل أو آخر يعتبر سبباً رئيساً لكل تراجع أو تقدم، المشهد الثقافي/ الإبداعي؛ وإن كان البعض يعتبر بأن صورة (الفنان) ماهي إلا انعكاس لانحطاط الواقع الاقتصادي الاجتماعي. وبالتالي لنختم ما يحترقنا كيف كنا؟ وكيف أصبحنا؟ بهاته الهموم الثقافية: ثمة مسرحيون، هم في أعلى سلّم الشهرة. تأملْ مساراتهم، يا صاحبي، لقد كانوا صناعة إعلامية محضة، لقد كانوا أطول الواقفين في ساحات المخافر. أما عن أعمالهم فلا تسأل، ولا تتساءل كيف انتحلوا جهود الآخرين... ....، لم يأخذوا من تعاليم المسرح غير تنشيط الأقنعة. تأمّل يا صاحبي الجدوى من ذلك، إنهم يظهرون على أركاح الحياة بشكل مخاتل وماكر.... هم الآن أكثر المتورطين في الدفاع عن المسرح. تأمل يا صاحبي أسباب ذلك، إنهم فاشلون فشلًا عظيمًا من حيث الإبداع المسرحي، أما عن صمودهم ذلك فلا تسأل ولا تتساءل، فقد أصبحوا نقابيين (4) لأن الفنان الحقيقي والأصيل هو ذاك الذي يكون الفن والإبداع لديه وسيلة ورافعة للقيم الأخلاقية العليا، قيم الحق والجمال والحرية والعدالة والمساواة. مقابل هذا حتى المال بدوره وسيلة وليس غاية على ظهر قيم الإبداع .لأن المسرح، حتى يصير مسرحًا، يحتاج إلى (أبطال)، إلى فرسان ثقافة يعطون الحياة بإبداعاتهم ديناميكية حقيقيةً في المجتمع، وكأنَّ هؤلاء قلائل أو تعدمهم في الحياة العربية، بصراحة: إننا بحاجة إلى فلاسفة وشعراء وموسيقيين ومسرحيين وروائيين وأيضًا، إلى أنبياء مجانين وعصابيين، فكرهم يسبق فعلهم (5).

***

نجيب طلال

....................

إحالة:

1) صور المثقف: لأدوار سعيد  ص  29 - ترجمة غسان غصن 1994

2) سوسيولوجيا المثقفين: لجيرار ليكلراك ترجمة جورج كتورة ص66 دار الكتاب الجديدة المتحدة/ ط1/ 2008

3) فقر الفكر وفكر الفقر ليوسف إدريس ص50 مؤسسة هنداوي /2017

4) هموم ثقافية (1) لحاتم محمودي في شبكة جيرون الإعلامية بتاريخ 16/09/2019

5) المسرح والاستعمار: لأنور محمد في شبكة جيرون الإعلامية بتاريخ 11/10/ 2018

 

في المثقف اليوم