أقلام ثقافية

صديقي المخادع (2)

عمار عبدالكريم البغداديقلنا في المرة السابقة: إن قلب مديرة المدرسة القاسي ربما رق للمعاني العظيمة التي انطلقت من جسدي الصغير المرتجف في تلك اللحظات حينما اجبتها بالقول والدموع تسيل بغزارة من عينَيَّ " أنه صديقي وأخاف عليه من العقاب"، ولا أظنها أشفقت لحالي قبل أن تطلب مني العودة الى الصف .

في عصر ذلك اليوم تحديدا كنت أقف الى جنبه قرب باب منزله، سألته عن نهاية الموقف المرعب، لكنه كعادته لم يبح بالحقيقة .

آثرتُ الإستمرار على مبدأ (أدوارد غاليانو) الذي لم أسمعه في تلك المرحلة من حياتي بكل تأكيد: " الصديق الحقيقي هو صديق الفصول الأربعة، أمّا الآخرون فهم أصدقاء صيف لا أكثر" .

هكذا وقعت بالخديعة للمرة الثانية، وقضيت برفقته أكثر من سبع سنوات أخرى، لا أنكر أنني كنت أكثر يقظة بعد ذلك الموقف، وتعدد أصدقائي وزملائي، لكن حلم الصديق الأول ظل ملازما لي .

في آخر مرحلة من مراحل الإعدادية المؤهلة للدراسة الجامعية، وفي الأيام العشرة الأواخر من العطلة التي تسبق الإمتحانات الوزارية، كنت حريصا على أن أشرح له كل ماأعرفه في دورس اللغتين العربية والإنجليزية والكيمياء وحتى مادة الأحياء التي تحتاج الى حفظ لا شرح، وماكان ينقصني حقا معلومات يُتقنها هو عن الفيزياء والرياضيات، ظل يماطل معي حتى إنتهت العطلة، وشرعنا في الإمتحانات، وعندما حان موعد التحضير للرياضيات تمارض وأمتنع عن لقائي، وكذلك فعل في موعد التحضير لأمتحان الفيزياء .

حصلنا على درجات متقاربة وعالية في الدروس الأربعة الأولى، لكنه تفوق عليَّ في المادتين اللتين كان يتقنهما وحرص على أن لا يشاطرني معلوماته عنهما، بخلاف مافعلته معه .

في يوم أعلان النتائج شعرت بالخذلان للمرة الثانية، بل إنني شعرت بالخيانة، لأن صديقي المراوغ إستغل نقاط ضعفي وقوتي ليحقق إنتصاره المزعوم، وكأنه كان ينافسني لوحدي،وسط عشرات الآلاف من الطلبة الذين أدّوا الإمتحانات الوزارية في ذلك العام، صدقا أقول:إنه لم يفضح أسراري البريئة يوما،لكنه كان بشكل أو بآخر يَتحيّن الفرص ليضرني،وينجي نفسه من المواقف العصيبة .

أنه فخ مؤلم ياشهرزاد يترك أعظم الأثر في النفوس الرقيقة التي مازالت في بداية الطريق، وقلّما ينجو المراهقون والشباب منه، وأجد الحل الأمثل لتقليل أثر الصدمة،وربما تجنبها، في هذه المراحل الحرجة من حياة الفرد،التي تفتقر عادة الى استشعار المعرفة الغيبية المسبقة،أو تحقيق انسجام نفسي ملموس، أجد الحل في إختبار صغير بإيداع سر مصطنع في صدر الصديق المفترض شريطة أن يكون له أثر أيجابي عليه في حال قرر الأفشاء به، كان يبلغه المتطلع الى صداقته بأن المدرس قد أنقص درجته في الأمتحان الإسبوعي بتهمة نقل إجابة أحد الأسئلة من زميل آخر كان بسببه هو، لأنه نقل الأجابة الصحيحة منه، فتوهم المدرس بتصور عكسي، فإذا أفشى السر وانتصر لذاته كان بعيدا كل البعد عن معنى الصديق الصدوق، لأن تلك الصفة لا تتحقق مع أرتفاع صوت (الأنا ) على حساب الطرف الآخر .

***

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

.................

* من وحي شهريار وشهرزاد (55)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

في المثقف اليوم