أقلام ثقافية

صديق الغربة

عمار عبدالكريم البغداديشهرزاد: آخر ماوصلنا اليه، قولك "إن رحيل صديق أصابت قلبه أمراض الغرور والكِبْر، خيرٌ ألف مرة من أن نتلقى منه صدمات يومية مفزعة تحت مظلة الصديق الصدوق"، والله إنه حديث ذو شجون، لكنني أجد في الغربة قساوة تصيب القلوب وكأن فكرة (هو في وادٍ وانا في واد) تلازم صدور المغتربين، وتعُجّل بإنهاء علاقات متينة كهذه، وربما تمتد الى أعمق مشاعرنا فتنسينا كل من نحب!.

شهريار: ستأخذيننا بعيدا ياشهرزاد لو أوغلنا بالحديث عن آثار الغربة، لكنني سأختصر هنا بالكلام عن أثر الغربة على الصداقة، حتى لا تتهمينني بالتهرب من الإجابة.

والغربة سيف ذو حدين، فهي إمّا أن تزيد من تعلقنا بأصدقائنا وأحبّائنا، أو أن توغل في قطع حبل الوصال، ولا شك بأن عوامل كثيرة في بناء شخصية الفرد تؤثر سلبا او إيجابا بهذه المعادلة المعقدة، وبرغم كل المؤثرات فأن أحدنا ليشعر بحاجة ماسة الى بناء علاقات وطيدة في الغربة، كأنها وطن بديل يشعره بالأمان المفقود، وبالعزوة المتلاشية، والتكاتف الغائب، وأستطيع القول: إن الصداقات التي ترتبط بمعاني الغربة أعمق - في كثير من الأحيان- من صداقات الوطن والإستقرار، فنحن نتهادى بإرتياح كبير الى إحساس الصداقة بإنسجام نفسي عندما نكون في حالة من الإستقرار المسبق، وقد يكون ذلك سببا وجيها لحسن الإختيار، والاضطراب النفسي يدفع بإتجاه قرارات إنفعالية تؤثر سلبا على حسن إختيارنا، كما أسلفنا ونحن نتحدث عن الصداقة في أدوار المراهقة وسنوات الأولى من الشباب، ولا أدعي هنا أن الإحساس بالأمان والإستقرار يقلل من حاجتنا الى صديق نودع عنده خزين أسرارنا وهمومنا وأحلامنا، وقد سلّمنا بذلك آنفا، لكن الحاجة الى الصديق في الغربة تخالطها مشاعر الإحساس بالوحدة والوجد، وتخيلي معي ياشهرزاد معاني (صديق الغربة) حينما نرى في إبتسامته خارطة الوطن، ونحتضن أحلام العودة بينما نعانقه في لحظة شوق أو فرح.

ولا أخفي سرا إن قلت: إنني كنت رافضا لفكرة إتخاذ صديق في العقد الرابع من عمري مهما كانت الأسباب، فالصداقة الحقة عقد كاثوليكي لا انفصال فيه حتى الرمق الأخير، ومادمنا نتحدث عن عقد أبدي فقد نكون أقرب الى الصواب عندما نمثل صداقة العقد الرابع برجل خاض تجارب مرة، وأخفق في علاقة حب وتعرض للخيانة مرات ومرات، ثم قرر أن يتزوج، لكنه يجد صعوبة متناهية في اختيار شريكته، فالصدمات والآهات، والإخفاقات، وتعدد الخيانات، كلها حواجز منيعة، وقوالب فكرية رصينة تبني أمامه جدارا عاليا من المواصفات التي يحددها للإرتباط، وبشق الأنفس قد يحصل على فتاة الإحلام (الخرافية) التي يبحث عنها ونادرا ما يفلح في ذلك.

وعلى وقع تلك الصدمات في العقدين الثاني والثالث، وكلمات أرسطو التي تحوم من حولي أينما اتجهت: (منْ كَثُرَ أصدقاؤه فلا صديق له)، فإن الحصول على صديق صدوق كان كالحصول على زوجة بمعايير مَلَكيّة في العقد الرابع من العمر، لكنها الغربة ياشهرزاد، تجعل المحال ممكنا، والقلب القاسي ليّنا.. في أحضانها تضيع جميع مقاييس الإستقرار، وتتبدل الأحلام عندما تتقاذفنا الوحشة والأقدار، فبعيدا عن كل من نحب، نجد حاجة ملحة الى صديق الغربة ليكون الوطن والكنف والأهل والأحباب.

هنا في مصر الكنانة لم أبحث طويلا، بل إنني لم أجد وقتا لأفكّر وأذكّر نفسي بقراراتي (الحاسمة) والمتهاوية تحت وطاة الغربة.

شهرزاد: عذرا على المقاطعة، لكنني أسجل تحفظي الكبير على قولك: "تحت وطاة الغربة في مصر الكنانة".. ألم تخبرني مرارا بأنك طالما حلمت بزيارتها والسكن فيها ؟، فكيف تكون حُلُما ثم تمسي غربة ؟!.

شهريار: الحق ما جاء على لسانكِ، فإنني والله ما أحسست يوما بغربة الروح بل أنني تخلصتُ من ذلك الإحساس القاتل بين ربوعها، عجيبة هي قلوب المصريين كأن أحدها واحة غنّاء تَسعُ من الأحباب والأصحاب وحتى الغرباء ألفا، ولأعرف سرا لهذه الصفة المميزة غير الطيبة التي تتجلى بتقبل الرأي الآخر، والقدرة على إستيعاب الأفكار المخالفة، وكما أسلفنا، فإن أعظم معايير الثقافة أن تستقبل صدورنا الرأي المخالف لإعتقاداتنا من غير أن نشعر بالضغينة او الحرج.

لا أتكلم هنا عن المثقفين المصريين حصرا، بل أعني أيضا الفلاح البسيط، وسوّاق النقل الخاص والعام، وبائعة الخضار الكادحة على قوت عيالها، وطلاب الجامعة، والاساتذة والعلماء والأدباء، إنها ثقافة ربانية قد حبا الله بها مصر وأهلها ليقارعوا الصدمات، ويحافظوا على تكاتفهم ووحدتهم برغم كل الصعاب عبر تاريخ طويل يمتد لأكثر من 5 آلاف سنة.

وأذكر أننا تحدثنا عن أهم الأسباب التي مكّنتْ الفتنَ من بلاد وادي الرافدين، فتقبل الرأي الآخر -في أيامنا هذه - غاية في الصعوبة، وأني لأرجو الله أن يجعل رسالة المحبة التي أكتب سطورها معك ياشهرزاد بلسما لتلك العلّة المستشرية في بلدي، فإن الأرض التي تمتد حضارتها لأكثر من 4800 عام ليست بعاجزة عن مد جسور المحبة من جديد، وتقدير ذوات الناس على إختلاف مشاربهم ومعتقداتهم وثقافاتهم، والتعامل بروح المواطنة والأخوة العراقية بعيدا عن كل المسميات الأخرى.

أنتم المصريون ياشهرزاد إنموذج يقتدى بالتكاتف والمحبة والألفة، وأمّا غربتي هنا فهي افتقادي لكل أحبابي وأصحابي وجيراني في وطني، إنني لأشتاق الى مياه دجلة والفرات كشوقي لأولادي، فأرتشف من النيل رشفة تمنحني أملا كبيرا بتجدد اللقاء، وأحن الى النخلة في بيتنا، فأشم رائحتها بين أشجار (المانجاو) المصرية، ويشتد وجدي لتوأم روحي، فأراها نجمة متلألئة فوق بحر الإسكندرية، ويأخذني الحنين الى أحضان أمي، فألتمس دفأها في ليالي القاهرة الحالمة.

***

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

....................

* من وحي شهريار وشهرزاد (57)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

في المثقف اليوم