أقلام ثقافية

مظفر النواب وانقلابه على القصيدة العامية (1)

إن السمات الاسلوبية للقصيدة النوابية جاءت منقطعة تماماً عمّا قبلها في مسار القصيدة العامية؛ التي سبقتها، فقصيدة الراحل مظفر النواب كانت ثورة بحق، وأنها ألهمت شعراء الجيل التجديدي الذي جاء بعده، وبصورة لم يستطيعوا فيها تجاوز عطايا تلك الثورة حتى يومنا هذا.

لكن ما حققه النواب في الأدب المكتوب باللغة العامية هو انقلاباً كلياً على القصيدة العامية حينها، بكل مقاييس الانقلاب الإبداعي في الكلمات، ومثال ذلك قصيدته (سفن غيلان ازيرج) وهي من قصائد الهّم الوطني:

زلمنه الما تهاب الذبح..

تضحك ساعة المنحر

يساگي الشمس من عينك

ابعز الشمس حُب أخضر

لَوَن حلَّت نسمة الليل ..

شَعرك تنشگ العنبر

من خلال قصيدته اعلاه نجد نمط الظلام بأذرع الرجال الباسطة، فالنواب الشاعر الثائر الذي يتلاعب باللغة وفق قدراته الخلاقة العالية، قبل النواب كان الشعر العامي بقواعده ضيق أفق النظرة اللغوية والجمالية.

كما كانت رؤية الشاعر الجمالية سابقاً عاجزة عن أن تؤسس لتناظر موغل في الجمال، بين استدارة حجل الفتاة في تحولها من كيان مادي محدود يحيط بالساق إلى عنصر كوني (گمرة) رغم أنها (زغيرة)، والتصغير عند النواب تكبير وتضخيم من خلال صدمة الجناس التشكيلي غير المحدود:

زلمنه تخوض مَيْ تشرين

حدر البردي تتنطر..

زلمنه أتحز ظلام الليل..

تشتل ذبحة الخنجر

والأدهى من ذلك أنهُ اجترح هذا الإعلان عشقاً ثورياً تمتزج فيه نداءات القلب الملتهبة بالهم الجمعي النضالي:

يامعوّد

دخيل مروّتك السمره

دِخيل الشوگ

أحِب جَفك أحب ايدك..

وشوف شفاف لو جمره

وفي قصيدة (سفن غيلان) التي لم نرَ من هو غيلان ازيرج الثائر حتى الآن، إلاّ من خلال صوت العاشق اللاهث، الذي يعزز حرقته للإيقاع المتسارع للقصيدة، وتكرار النداء الموجع (يا غيلان)، الذي يأتي مدوياً لكن كسيراً بلا رجاء:

سفن غيلان ازيرج تضوي بالعبره

يا غيلان، يا غيلان ازيرج، گلبي شيصبره؟

إخذ كل الزلم واملي السفن، يا عيني..

الله وياك

وفد جلمة عشگ حلوه، أظن إلها مجان هناك

ذبها بسكنة العنبار..

يا غيلان

وحين تكمل قصيدة (سفن غيلان ازيرج) سوف تثور في اعماقك تساؤلات عن سر اندفاع هذه المرأة العشيقة المحمومة وراء حبيبٍ ثائر لا يمنحها أذناً صاغية. اندفاعه تصل حدّ تقبيل الأيادي الذي ضاعف وقع الفعل (أحب)، (أحب جفك.. أحب إيدك)، ليجعله مزدوجاً حامياً.

أما العنف الذي ادخله مظفر النواب إلى القصيدة العامية هو من نوع (العنف المحبب) أو (العنف الآسر)، الذي يختلف جذرياً عن (العنف الدموي). فالعنف النوابي هو العنف المحبب، العنف الناجم عن تشابك إرادتي الموت والحياة في وحدة جدلية خلاقة:

زلمنه تخوض مَيْ تشرين

حدر البردي تتنطر..

فقصيدة النواب حركية محسوبة يفرضها الاحساس باحتدام المشهد الصوري الشعري والحاجة التعبيرية لتجسيد تفصيلاته الصراعية من خلال هذا المشهد:

مهرك يتجادح بالحنطة

ويعلگها امناثر لعگالك

فقصائد مظفر النواب نجدها تروى أيضاً بضمير المتكلم المؤنث، وهي بادرة غريبة على الطابع السكوني الذي رسم مسار القصيدة العامية العراقية، فالمخاطب هنا هو (لعيبي) وفي قصيدة أخرى (حمد) أو (سعود) أو (صويحب) أو (حجام)، هؤلاء هم أحباء مظفر النواب.

لأول مرة يظهر في العراق شاعر تقرأه شرائح الشعب كله، فتراث مظفر ينتقل شفاهياً بين الاجيال، مثل رسالة مقدسة، حتى الجمهوري الأمي، يحفظ مقاطع من (وتريات ليلية).

فالنواب حمل عشقاً عجيباً لأشخاص عايشهم في الأهوار وهم من البسطاء، ففي الغالبية المطلقة من قصائد مظفر تتعامل مع عذابات شعبه، فيوجد ضمير واحد متسيّد تماماً تقريباً، وهو ضمير الجماعة المتكلمة، أما ضمير المتكلم الفرد فهو استثناء نادراً ضمن هذا الاطار، وعند مراجعة نصوص الشاعر نجد ظاهرة أخرى ملفتة للنظر هي دقة وصراحة التشبيهات المرتبطة بالبيئة المائية:

وأشمّس روحي بالسنبل

يجي بروجة شمس..

يسگي السفن والناس

يسگيها

فهي مفردات اللغة الزراعية، مفردات الخصب والنماء؛ التي يشيد منها معمار قصيدته، حيث تزدحم ساحة هذه القصيدة بمفردات: الماء، الگاع، السنابل، الشمس، الشريعة، الهور، القصب. وكخطوة تمهيدية على طريق انتظار المنقذ، تتسرب روحه العنيدة في عروق السنابل، الذي تتهاوى وروح الشاعر المازوخية إلى اشد حالات الإذلال بسبب الاحباط والخيبة:

أبوس إيد اللي يسگي الناس

ويحمّل تمر، وسلاح، ورصاص

بشرايعها

أبوس إيد اليشيل البرنو الزبنية

بطرگ ثوبه،

وأبايعها...

أما في الذاكرة الشعبية فإن أبشع مصير ينتظر العروس هو أن يكون عريسها معروفاً بغدره المسبق، وانعدام وفائه:

آفه يا گاع:

ينبت بيج للواوي عنب

يا طيبة

ويعرس عليج الذيب!!!

فحرقة روح مظفر اللائبة مركبة تنبع من ازدواج حالة كشاعر وكمناضل، فيسرب نداء طيبة أرضه بين صورتين مريرتين، وكأنه يوفر عذراً منكسراً لذاته من أوصاف الامتهان المؤذي التي لحقت بمحبوبته.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

في المثقف اليوم