أقلام ثقافية

الضَّيفُ اللّزج

علي الجنابيغادرَ ضّيفي، ضيفٌ ثّقيلُ لزجٌ، بعدَ أحتسائِهِ لفنجانٍ من قهوةٍ مرّةٍ كمرارةِ كلماتهِ ذي الصَخَب، وبعد تَفَكُّهِهِ بي ثم بطبقٍ حَلوى ومن مثلِهِ من رُطبٍ، وهناكَ تينٌ وعرموطٌ وعنب،

وكنتُ قد سألتُهُ - قبيلَ المغادرة - مسألةً بِتَرَجٍّ ونَدب، بأن يجعلَ من الطبقينَ صحراءَ جَدب، لا فاكهةَ فيها ولا حلوىً ولا حتى الرُطَب؟

قَهقَهَ وسألني بدهاءٍ وخُبثٍ منقوعٍ بعجبٍ ! عمّا أبتغيه من وراء ذلكَ وعن السبب؟ أجبتُهُ:

لا شيء – ياصاحبي - يثيرُ  في الطلبِ العجبَ؟ وإنما الأمر: كي أحبِطَ هجومَ أولادي على الأطباقِ ما إن تَغادرَنا وما جَلبتَ معكَ من ضَحِكاتٍ جَلَب.

ضَحِكَ وتَعذّرَ بما فيهِ من داءٍ مزمنٍ وعطب، داءُ "سكريٍّ" متوارثٌ عبر الحقب، وأنّهُ يَخشى إرتفاعَ نسبتِهِ في دمّهِ بِتهوِّرٍ منهُ مُرتَكب.

لم أشأ أن أحرِجَهُ، وكنتُ منشرحَ الفؤادِ ثابِتَ الرُكب، لإنّ ضيفيَ ورغمَ ما فيه من "سُكريّ" قد غزا مضاربَ الطبقينَ بغزواتٍ تبب، فجعلَهُما قاعاً لا حلوىً فيهما، وجذاذاً فلا فاكهة إلّا موزةً بربعِ ذنب، صفراءَ تلعقُ جراحَها وتأنُّ بحروفِ عزاءٍ وبلوعةٍ وتَعَب، وتستصرخُ بتأفّفٍ وتأوّهٍ وشجب، حبَّةَ عنبٍ في حضنِها، أو هكذا كانوا قبلَ الغزوِ ينادونَ الحبّةَ بهذا اللقب..

وَدَعّتُ زميلي بكلماتِ ثناءِ على سنا زيارتهِ (الذهب)، وسؤالهِ عنّي، وما علِمَ أنَّهُ قطَّعَ شراييني وما أبقى لي من شُعيرةٍ من عَصب.

ثمَّ ..

أنتهَت حربُ الأطباقِ بين أولادي بسلامٍ رَكَنَ فإستَكَنَّ فإستتب.ثمَّ..

كَرَرتُ راجعاً الى حُجرتي لأستريحَ من ذاكَ العطب، وأستميحَ أطفالي في دقائقَ صمتٍ للحظاتِ حِدادٍ مُرتَقب، فأستزيحَ بهِ من وَجدِي ماعَلِقَ من هراءِ ضّيفٍ ثقيلٍ لزجٍ غضب.

أمتثلَ أولادي لرجائي ودخلتُ هُنيهةً بِرَغَب، في صمتٍ بهيجٍ،

" فبالصمتِ وحده كلُّ فؤادٍ يُستَطَب"،

وفجأةً وإذ..

بعصفِ ريحٍ أفزَعَني عندَ البابِ قد وَقَب، حيثُ كانَ العصفُ عصفَ "زوجي" المَصون ذي الحسبِ، صَرَّحَتْ بعنفوانٍ زائفٍ مُتَكَلِّفٍ وشبهِ عَتَب:

- قد سَمِعتُ قَهقَهاتِكَ وضيفِكَ وعَلِمتُ السبب، لِمَ أفشَيتَ سِرَّ هجومِ أولادِنا على أطباقِ العنبِ؟ وقد تعلَمُ أنَّ أبناءنا يَعرِشونَ في بؤبؤِ الفضائلِ والأدب؟

تَبَسَّمتُ لكنّي ما تَلَعثَمتُ في ردِّ حازمٍ وَجَب، فأنا الليث في العرينِ وماهي إلّا لبوةٍ ثرثارٍ بشَغَب:

- ويحَكِ يا امرأة! يا عارضاً ممطراً من قِطَعٍةِ تنطعٍ وتكلّفٍ وزيفٍ صَبب! وياويحي أنا، وقد خَرَجتُ من هراءٍ أهوجٍ من ضيفٍ نَطَّ وذَهَب، فَعَرَجتُ في مراءٍ أعوجٍ من زّيفٍ حَطَّ وَوَثَب؟ أوَما عَلمتِ -يانجمةَ صبحٍ حنون- أنّ هجومَهم ما كانَ يوماً نزاعٌ لأجلِ حبّاتِ عنبٍ في عنقودٍ، بل هو صراعٌ أزليٌّ لإثباتِ شقاوةٍ ووجودٍ، وذاكَ صراعٌ ماسَلِمَ ولن يسلمَ منهُ والدٌ ولا مولودٌ، ولا حتى ضيفُنا ولو زَقَّ أولادَهُ كلَّ نُصحٍ بجهود، ماسَلمَ منهُ مَن نعرفُ ومَن لا نعرفُ، وكُلٌّ مُتَقَهقِرٌ أمامَ صبيَتِهِ فلا ينفعُ لوماً ولا يدفعُ صُمود،. ( كذلكَ ومن يقرأُ سطورَنا تَرينَهُ - يارَجمةَ ظُهرٍ مصون- الآنَ مُتَبَسِّماً، ومؤيّداً لي ومُحمَرَّ الخدودِ)، ذاكَ أنَّ الصبيةَ – يا هَجمةَ عصرِ مكنون- في طَورِ نشأتِهم هم أقربُ منهم للقرود، يَتَنَطَطُونَ شذراً لاتُقيّدُهم حدودٌ، ويَقصفون مذراً لاتُحيّدُهم قيود، يُدَمِّرونَ كلَّ هدفٍ أمامَ أنظارِهم وحُشود: أجهزةً، دُمىً، ملبساً، نساتلَ، وبِطيخاً غيرِ مُحصنٍ بحراسةٍ وجنود. هي فيهمُ فطرةٌ ورغبةٌ جامحةٌ كَرَغبَتي أنا في طلاقٍ منكِ مؤبدٍ غير مردود، فَأفِرُّ الى الجبالِ آملاً هنالكا في نقاهةٍ وركود، من حُرقةٍ وغُمَّةٍ قضيتُها معكِ لعُقود، أو رغبةٍ دونَ ذلكَ مكنونة: " أن أقَصِفَ بيديَّ إخوان قردة يهود" .

خُذي عنّي ياعُجمةَ ليلٍ مجنون:

[لو أنّ طفلاً مَلَكَ الأرضِ وما عليها، ما كانَ لِيَجنَحَ لِسَلَمٍ مع الأطباقِ ويَذَرَ هجومَ الأسودِ].

مَدِّدُوا أمدَ الصمتِ يا أولادي الورود، فأجعلُوهُ شهراً وتوقعوا مزيداً من مدود، فإنَّ،،،

هراءَ ضّيفٍ لزجٍ لَدودٍ، أهونُ وأخفُ وِطئاً من مِراءِ زوجٍ كَنود.

***

علي الجنابي - بغداد

 

في المثقف اليوم