أقلام ثقافية

منجد اسم على مسمى

صالح الطائينادرا ما تجد أسما منطبقا كليا على المسمى، فالمسميات تختلف قليلا أو كثيرا عن أسمائها، وقد يشط بعضها بعيدا، كأن تجد فتاةً أسمها جميلة، وهي من رموز القبحِ، أو تجد رجلاً اسمه كريمٌ، وهو مثال للبخل، أو رجلا أسمه شجاعٌ، وهو عنوانٌ للجُبنِ، وهي صفات لا تتبع الموصوف. وربما وجود وتشخيص هذا التناقض الجوهري هو ما هال العرب القدماء ودفعهم لأن يرمزوا لشيء يدل على التشاؤم برمز مخالف له يدل على التفاؤل، كأن يطلقوا على الصحراء القاحلة اسم: مفازة، وعلى من لسعته أفعى أو عقرب اسم: سليم، وعلى الذي فقد عينا اسم كريم العين. وفي كل ما تقدم لا تجد مطابقة، بل في أغلب الأسماء والمسميات لا تجد التطابق حاصلاً إلا ما ندر، ومن هذه النادرة، بدت بادرةٌ أسمها (منجد) وهو اسم مولود جديد لصديقي العتيد، فأحببت ان أترجم تهنئتي إلى كلمات تبقى خالدة في ذاكرته وذاكرتي.

منجد سِفرٌ كريمٌ، في جوهره، يعبق شذى اسمه، وفي اسمه يسمو جوهر معناه، وبين الاسم والمعنى تجد سمو الهدف ونبل الغاية، أراد أهله له أن يكون كما هو العذب الزلال، فوسموه بهذا الوسم، واختاروا له هذا الاسم، وما أجمله من اختيار، فيه دلالة وانبهار، وبشرى بالفرج بعد طول انتظار.

ومنجد في اللغة لها الكثير من الاعتبار والسعة والانتشار، وهي جنةٌ مترعةٌ بطيب الثمار، فمُنجِد: اسم. ومنجِد (بالكسر) فاعل من أَنجَدَ، وجذرها: نَجَدَ. ومُنجَّد (بالفتح والتشديد): اسم المفعول من نَجَّدَ، والمُنَجِّد: مَن يقوم بخياطة الوسائد والمراتب ونحوها بعد حشوها بالقطن. وبَيْتٌ مُنَجَّدٌ (بالفتح والتشديد): مُزَيَّنٌ بِسُتُورٍ وفُرُشٍ ووسائدَ. وكأنهم أرادوا لها أن تُنَجِّدَ حياتنا بالحكمة والجمال والهداية بعد الضلال.

والنَّجْدَةُ: الْمُطَالَبَةُ بِالإِغَاثَةِ فِي حَالاَتِ الضَّيْقِ وَالشِّدَّةِ وَالْفَزَعِ. واِسْتَنْجَدَ رَفيقَهُ أوْ استنجد بِهِ: اِسْتعانَ، واسْتَغاثَ به. واستنجدَ على فلان: اجترأ عليه بعد أن كان يهابه. وكأنهم أرادوا لوليدهم أن يكون في قادم الأيام نجدةً للولهان الذي يطلب العون. وفي اللغة مُنَاجَدَةُ الرَّجُلِ: مُعَاوَنَتُهُ ونَصْرُتُهُ، وهم أرادوا له أن يناجد من يحتاج إلى العون والنصرة والنجدة.

أَنْجَدَ الدَّعْوَةَ: أَجابَها. وأَنْجَدَتِ السَّماءُ: صَفَتْ، خَلَتْ مِنَ الغَيْمِ. والمِنْجَدَةُ: عصًا تُحثُّ بها الدّابّةُ والجمع: مَنَاجدُ. وكأنهم أرادوا من خلال هذا الاسم أن يعلنوا أن الضعف الذي يبدو ظاهرا على وجه أمتنا إنما هو مجرد عارض عابر، والقوة بعد الضعف قادمة لا محال، ولذا قال العرب: اِسْتَنْجَدَ الوَلَدُ، أي: قَوِيَ بَعْدَ ضَعْفٍ.

ونجدٌ: أكبر إقليم في شبه جزيرة العرب التاريخية، وأعظمها مساحة، أرضه هضبة ترتفع ما بين 700 إلى 1500 متر فوق سطح البحر، التي على أرضها نشأت وقامت حضارة المقر، وهي واحدة من أولى الحضارات الإنسانية، نجحت في تدجين الحيوانات، وهي حضارة عربية قديمة يتجاوز عمرها التسعة آلاف سنة قبل الميلاد.

تاريخيا كانت نجد موطناً لمملكة كندة وقبيلتي طسم وجديس اللتين عاشتا في الألف الأول قبل الميلاد. وهم من قدماء سكان جزيرة العرب مثل وعاد وثمود والعماليق، الذين بنوا حضارات عظيمة في وسط شبة الجزيرة. وموطنا لقبيلة بني زيد التي انتشر أفرادها في عالية نجد والوشم والقصيم والأحساء وبقية الجزيرة بالمملكة العربية السعودية، ومنها أسر سكنت سلطنة عمان والكويت والبحرين والعراق. وموطنا لبني حنيفة؛ الذين كانوا يعيشون على امتداد شرق نجد في المنطقة التي كانت تعرف سابقاً باليمامة، ووادي العرضة، الذي سمي لاحقاً بوادي بني حنيفة. ولهم نَسَبَ ياقوت الحموي تأسيس مدينة الحجر التي قامت على أنقاضها مدينة الرياض المعاصرة.

وموطنا لقبيلة بني أسد المضرية الذين ينتسبون إلى مضر وهو الجد السابع عشر للنبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، وقبيلة العدنانية الذين ينسبون إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.. كان موطنها في الجاهلية بنجد غربي القصيم وشرقي جبلي طيء أجأ وسلمى، وكانت تجاورها قبائل طيء وتميم وغطفان وهوازن وكنانة وبنو عامر ومحارب وباهلة وبنو غنى. والعدنانيون أو العرب العاربة بمجموعهم من القبائل التي تعود بأصلها إلى جد مشترك هو عدنان، وهو جد النبي محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم).

وفي نجد سكنت قبائل مملكة تنوخ، وهم قبائل عربية قطنت مناطق واسعة تمتد من جنوب سوريا ومملكة الأنباط في الأردن وغربي العراق وشمال الجزيرة العربية. ومن قبائلهم الشهيرة قبيلة لخم؛ المناذرة الذين أسسوا مملكة الحيرة في العراق، وقبيلة الغساسنة الذين حكموا جنوب بلاد الشام. وهم الذين حاربوا زنوبيا ملكة تدمر. وشاع أسم نجد حتى قيل: أنجد الشَّخصُ: إذا دخل إلى بلادَ نجْد، ومنها اشتقت تسمية المِنْجَدَةُ: وهو اسم آلة من نجَدَ عبارة عن عُودٍ يُنْفَش به الصُّوفُ، أو القطنُ. وبها تسمت بعض القبائل العربية، فالمَنَاجِدةُ: قبيلةٌ من عشيرةِ شمر العربية، ومنهم قبيلة أسلم التي دخلت المدينة المنورة بعد انتخاب أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) مباشرة، فأخذت تحث الناس على البيعة.

والمنجد: معجم عربيّ يُعد مَرجعًا مُهمًّا للطلبة والباحثين عن المعلومة المختصرة، وهو أحد أكثر معاجم اللغة العربيَّة انتشارا، إذ صدرتْ طبعته الأُولىٰ عام 1908، وتتابعت إصداراته حتى تجاوزت الأربعين.

وفي القرآن الكريم عدة آيات ورد فيها لفظ "نَجِدْ"، منها قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) وقوله: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ) ولذا أورد الراغب الأصفهاني في معجم ألفاظ القرآن بعض معانيها، فقال: والنجد: المكان الغليظ الرفيع، وقوله تعالى: (وهديناه النجدين) فذلك مثلٌ لطريقي الحق والباطل في الاعتقاد، والصدق والكذب في المقال، والجميل والقبيح في الفعال. والنجدُ اسم صقع. ورجل نجِد ونجِيد ونجد أي: قوي شديد بيِّن النجدة. وقيل للمكروب والمغلوب: منجود، كأنه ناله نجدةٌ، أي شدة، والنَّجادُ: ما يرفع به البيت. ومن الراغب استقى الدكتور أحمد مختار عمر معناها وذكره في قاموسه الموسوم "المعجم الموسوعي لألفاظ القرآن وقراءاته الذي طبعته مؤسسة التراث في المملكة العربية السعودية.

هذا وقد سمت العرب الناقة ذات العنق الطويل: نجود، واشتقت منه اسم "منجدة" الذي كانوا يطلقونه على المرأة العاقلة الرزينة النبيلة.

تدلل كل هذه المعاني، وتوضح جميع هذه المباني أن اختيار اسم منجد في هذا الزمن المجهد فيه تحد وكبرياء ودلالات على العزة والإباء، فألف تحية للآباء وصادق الدعوات للأبناء.

***

صالح الطائي

 

في المثقف اليوم