أقلام ثقافية

الكرخي ونيرودا وغوغول

ضياء نافعالكرخي، الاسم الاول في عنوان مقالتنا، هو طبعا الشاعر العراقي الكبير و(المظلوم !!!) عبود الكرخي (المتوفي عام 1946، ويوجد اختلاف بشأن تاريخ ولادته، اذ يقول البعض 1855 وهناك من يقول 1861) . يرتبط عبود الكرخي دائما في وعينا العراقي الاجتماعي (بمجرشتة!) الخالدة (رغم كل الاجتهادات بشأن عائدية هذه القصيدة)، المجرشة التي لا تعرفها الاجيال العراقية (ولا حتى تتصوّرها) منذ اكثر من ثلاثة أرباع قرن من الزمان واقعيا، لكن الاجيال العراقيّة تلك تربط المجرشة تلقائيّا بقصيدة عبود الكرخي عنها ليس الا، وتتذكّر رأسا معاناة تلك المرأة العراقية المسكينة، التي تسب وتلعن (المجرشة وراعيها !!!)، رغم ان المسكينة تلك تستمرّ بعملها المضني هذا، و (تجرش وتجرش ...!) بغض النظر عن لعناتها ومسباتها وموقفها، ولازلت أتذكر، كيف كانت بعض الموظفات في كليّة اللغات نهاية القرن العشرين يقولنّ لي (بسْكوت !!!)، وكنت أنا معاون العميد آنذاك – (ساعة واكسر المجرشة // وانعل ابو راعيها !)، وهنّ يتضاحكن، لأنهنّ يعلمنّ، انني كنت (اللاحزبيّ) الوحيد في ادارة الكليّة عندئذ، وكنت أنا أضحك بصمت طبعا، لأني كنت أفهم، ماذا يقصدنّ بذلك المقطع من قصيدة عبود الكرخي الخالدة ... ويقال كذلك، والعهدة على الراوي، ان أمير الشعراء احمد شوقي نفسه كان معجبا ببيت من تلك القصيدة، والبيت هو – (هم هاي دنيه وتنكضي // وحساب اكو تاليها) .

وعلى اساس تلك الامثلة المحدودة (اذ توجد الكثير مثلها حتما عند الآخرين) يمكن القول وبكل ثقة، ان الدور، الذي تؤدّيه قصيدة (المجرشة) هذه لعبود الكرخي في حياتنا العراقية الخاصة و العامة منذ ظهورها في عشرينيات القرن العشرين والى حد الان (ونحن في بداية عشرينيات القرن الحادي والعشرين) هو دور فريد جدا ومتميّز فعلا في تاريخ العراق الحديث، فما أعظم هذا الدور، الذي تؤديه قصيدة عبود الكرخي الحيوية تلك طوال قرن من الزمان !

أما نيرودا، الاسم الثاني في العنوان، فهو طبعا بابلو نيرودا، الشاعر التشيلي الشهير، الذي يعرفه القراء العرب حق المعرفة، وقد أضفت اسمه في عنوان مقالتي هذه بعد الكرخي مباشرة، لأني مندهش جدا و معجب جدا بالمقالة الجميلة (والمبتكرة قلبا وقالبا)، التي كتبها المبدع العراقي د. جمال العتابي الموسومة – (تساؤلات بابلو نيرودا ومستحيلات عبود الكرخي)، والتي اطلعت عليها في حينها بمجلة (المثقف) الغراء بتاريخ 2/ 8 / 2020 . لقد أثبت العتابي في مقالته المبتكرة والجريئة والرائعة تلك، ان علم الادب المقارن هو - (علم بلا حدود !) فعلا، فالشاعر العراقي الكرخي نشر قصيدته قبل ظهور نيرودا أصلا، والقصيدة ذات نكهة عراقية بحتة، والشاعر التشيلي نيرودا كتب قصيدته دون حتى ان يسمع بالكرخي وبلده وقصيدته، ولكن العتابي في مقالته تلك تحدّث بمهارة عن مقارنة الصور الفنية في قصيدتيهما، وقد استطاع فعلا ان يرسم لوحة ذكية وحيويّة و ناطقة وطريفة جدا لتلك المقارنة بين قصيدة نيرودا (تساؤلات) وقصيدة الكرخي (مستحيلات).

أما الاسم الثالث في عنوان مقالتنا، اي غوغول، فانه (فرض نفسه !) وأنا أكتب هذه السطور، اذ انه (طلّ) عليّ، وهو يسألني بلهجة ذات معنى واضح المعالم - كيف يمكن ان تتحدث عن شاعركم العراقي، الذي يقول باستحالة (ربط البقّة بحبل !)، دون ان تتذكر استحالة (الانف !)، الذي كان يسيرفي شوارع بطرسبورغ بمفرده ؟ ضحكت أنا، وأجبته، طبعا طبعا يا نيقولاي فاسيليفتش، ارجوك لا، تغضب، فاني تذكرت رأسا الصورة الفنية الخالدة في (انفك !)، رغم ان شاعرنا العراقي لم يطّلع عليها، ولا أظن انه حتى سمع عنها وعنك يا غوغول اصلا، ولكن العتابي كان يتحدث عن تلك الصورالفنية الاخرى، مثل (علام يضحك البطيخ ساعة ذبحه ؟)، اي انه تحدّث عن جانب آخر من جماليات تلك الصور الفنية، الجماليات غير الاعتيادية والشاعرية المدهشة، ولكنه لم يتوقف بتفصيل عند سريالية تلك الصور عند الكرخي، مثل (ربط البقّة بحبل) او (نملة تدفع الملوية)، هذه الصور التي تذكرنا رأسا بلوحات سلفادور دالي، وطبعا، تعود بنا في نهاية المطاف الى صور(الواقعية الغرائبية) ان صحّ التعبير، التي يعتبر غوغول واحدا من روادها الكبار في الادب الروسي خصوصا، والادب العالمي بشكل عام .

***

أ.د. ضياء نافع

تحية تقدير للعتابي، الذي اوحى لي – عبر مقالته المبتكرة والفريدة - بكتابة هذه السطور، والشكر- قبل كل شئ وبعد كل شئ - طبعا للكرخي ومستحيلاته، و لنيرودا وتساؤلاته، ولغوغول وأنفه .....

 

في المثقف اليوم