أقلام ثقافية

عن بيردنيكوف وكتبه حول تشيخوف

ضياء نافعولد بيردنيكوف في الامبراطورية الروسية عام 1915، وتوفي في روسيا الاتحادية عام 1996، ولم تؤثّر الفترة الصغيرة من عمره في الامبراطورية الروسية (اي قبل قيام الاتحاد السوفيتي)، ولا السنوات الخمس في روسيا الاتحادية (اي بعد انهيار الدولة السوفيتية) على مسيرة حياته في مجال البحث العلمي بتاتا، اذ انه كان وسيبقى علما من أعلام المتخصصين السوفيت (ونؤكّد على كلمة السوفيت) في تاريخ الادب الروسي في القرن التاسع عشر ضمن الاختصاص العام، وواحدا من المتخصصين السوفيت البارزين، والذين لازالوا يمتلكون صوتهم المسموع بروسيا اليوم في دراسة تشيخوف وابداعه ضمن الاختصاص الدقيق، اي ان بيردنيكوف باختصار شديد- علم في مسيرة الدراسات الاكاديمية حول الادب الروسي عموما، و في مسيرة الدراسات العميقة حول ابداع تشيخوف خصوصا و لحد الان .

لنبدأ اولا بتقديم هذا الباحث الاكاديمي المتميّز للقراء العرب، القراء الذين لا يعرفون – على الارجح – مكانته الحقيقية بمسيرة البحث العلمي في مجال تاريخ الادب الروسي في القرن التاسع عشر بشكل عام، ولا يعرفون طبعا اهميّته بمسيرة التعمّق في تحديد واكتشاف عوالم تشيخوف الفنية بشكل خاص، وذلك بتحليل نتاجات تشيخوف قبل كل شئ واستنباط النتائج من هذا التحليل المختبري الموضوعي .

تخرّج بيردنيكوف في القسم الروسي بكليّة الفيلولوجيا (اللغات وآدابها) في جامعة لينينغراد (بطرسبورغ حاليا) عام 1939، ثم التحق في قسم الدراسات العليا بنفس الكليّة عام 1940، الا ان الحرب العالمية الثانية بدأت عام 1941، وهكذا اضطر للالتحاق بالخدمة العسكرية، كما هو حال جيله كله، وساهم في تلك الحرب، ثم عاد الى قسم الدراسات العليا بعد الحرب، وأنهى تلك الدراسة بنجاح باهر، وحصل على شهادة (كانديدات العلوم الفيلولوجية)، اي شهادة (دكتوراه فلسفة) في الادب الروسي، وكان موضوع اطروحته عن أدب تشيخوف المسرحي، واصبح تدريسيّا في نفس قسمه، قسم الادب الروسي بجامعته، ثم تدرّج في الخدمة الجامعية، و حصل بعدئذ على درجة الاستاذية (بروفيسور)، ثم اصبح عميدا للكليّة، وبعدها انتقل للعمل باماكن كثيرة و متنوعة في المؤسسات الثقافية السوفيتية، وقد كان يشغل دائما مكانا قياديّا في تلك المؤسسات، وفي عام 1962 انجز اطروحة دكتوراه العلوم، التي يسمونها عندنا (ما بعد الدكتوراه)، وناقشها بنجاح (وكانت ايضا عن جوانب تشيخوف الفكرية والابداعية)، وقد استمر بيردنيكوف في مسيرة عمله الاداري الى ان وصل الى منصب الوكيل الاول لوزارة الثقافة في جمهورية روسيا السوفيتية (اذ كان في كل جمهورية سوفيتية مجلس وزراء خاص بتلك الجمهورية)، والذي شغله من 1966 الى 1977، ثم اصبح رئيسا لمعهد غوركي للادب العالمي التابع لاكاديمية العلوم السوفيتية، ولكن كل هذه المناصب الادارية الرفيعة في المؤسسات الثقافية السوفيتية لم توقف نشاطه في مجال البحث العلمي، وهذا هو الموقف الحقيقي للباحث العلمي، اذ كم شاهدنا حولنا من مواهب علمية (دفنتها !) المناصب الادارية، ونريد ان نتوقف (وحسب عنوان مقالتنا) عند الكتب التي نشرها بيردنيكوف حول تشيخوف بالذات، دون التطرّق الى كتبه وبحوثه الاخرى حول تاريخ الادب الروسي .

أصدر بيردنيكوف عدة كتب عن تشيخوف منذ خمسينيات القرن العشرين فصاعدا، وقد تناولت هذه الكتب قبل كل شئ سيرة حياة تشيخوف مرتبطة بمراحل ابداعه وبتداخل جميل جدا، واثبت بيردنيكوف، ان تشيخوف هو (معاصرنا)، وقد جاء عنوان أحد كتبه هكذا – (معاصرنا تشيخوف)، وتناولت كتبه ايضا مسرح تشيخوف، وكان عنوان هذا الكتاب – (تشيخوف كاتبا مسرحيّا)، والذي يقع في 356 صفحة من القطع المتوسط، ويوجد لديه كتاب يبحث في نثر تشيخوف بعنوان – السيدة ذات الكلب الصغير لتشيخوف، وهو كتاب يتحدّث بيردنيكوف فيه عن خصائص الفن القصصي لدى تشيخوف، مع التركيز على قصته الشهيرة (السيدة ذات الكلب الصغير)، هذه القصة التي اعتبرها الكثير من نقاد الادب واحدة من أبرز القصص في الادب العالمي، القصة التي خلّدت موضوعة الحب المتأخر و الحقيقي و المستحيل بين الرجل والمرأة، والتي انعكست من الادب على انواع اخرى من الفنون مثل السينما والنحت، وهناك كتاب آخر لهذا المؤلف بعنوان – (تشيخوف – بحوث فكرية وابداعية)، والذي يقع في اكثر من 500 صفحة من القطع المتوسط، وقد حاز هذا الكتاب على جائزة الدولة لعام 1985 كأفضل كتاب في مجال الادب والفن في الاتحاد السوفيتي . ويجب الاشارة حتما، الى ان هذه الكتب قد صدرت بطبعات عديدة، وكانت كل تلك الطبعات مزيدة دائما، وقد أدّت ظاهرة اعادة الطبعات هذه، الى ان يكون بيردنيكوف موجودا دائما في المصادر الروسية عن تشيخوف ولحد الان، وكم تستحق هذه الظاهرة في الاجواء الفكرية الروسية ان نتأمّلها بهدوء من قبلنا، اذ انها تجيب عن سؤال مهم جدا مطروح في واقعنا الفكري، سؤال يرتبط بهؤلاء الذين (يحذفون !!!) دائما كل شئ حدث في مرحلة سياسية معينة من مراحل البلد، بما فيها الاعمال الابداعية في تلك المرحلة، دون ان يدرسوا طبيعة تلك الاعمال وقيمتها و اهميتها، بحجة انها ترتبط بتلك المرحلة ليس الا، وهذه هي النظرة الساذجة و السطحية للامور، النظرة التي لا تتفهّم الفرق الجوهري بين (الاخضر واليابس !!!)... والحليم تكفيه الاشارة..

***

أ. د. ضياء نافع

 

 

في المثقف اليوم