أقلام ثقافية

خَدُّ الشَّمسِ

علي الجنابيأخَذْتُ بكَفِّي دَكَّةً من خَشبٍ، جَنبَ جِذعِ نَخلتي ذي التُّميرات، وإتَّخَذَ ظَهري جِذعَها مُتَّكأً، وما إنفكَّ يَإنُّ من آلامٍ وعِلّات،

ثمَّ ساقايَ تَحَلحَلا بإرتياحٍ حَذوَ وُرودٍ ناعِسات، ثمَّ عيانايَ تغلغلا بإنشراحٍ نحوَ خُدودٍ للشّمسِ آسرات،

وإذ بَدَأتْ الشَّمسُ رويداً تخلعُ ثوبَ حنانِها رويداً، كلّما إرتقَت شاهِقاً في منازلِ الرّحلات. وإذ كانَت سُعَيفاتُ نخلتي من فوقي يَتَحَسَّسنَ نظراتي، وإذ وَدَدنَ النزولَ في منافسةِ الجَمالِ في سوحِ عبراتي، فشَدَدنَ بتمايلٍ مأمول، أملاً مِنهُنَّ في لفتةٍ من لَفَتاتي، وبجَلَبةٍ مِنهُنَّ عن شمالٍ ذاهبٍ، وعن يمينٍ آتٍ، وإذ بصري ماإنفكَّ شاخصاً شَطرَ خُدودِ فتاتي، وقد إستحوذت على عبراتي، ومابرحَت أجنحةُ شَتَاتِي في غفلةٍ من تراقصِهُنَّ، ومسافرةٌ فيما وراء السَّمَوات، تَتَفَكَّرُ في آفاقِ سمواتٍ ثابتاتِ، مرفوعةٍ بغيرِ أعمدةٍ نابتاتِ، وفي طيورٍ يقبضْنَ وصافاتٍ، وفي سُحُبٍ يَنبضْنَ مُسَخراتٍ، وفي أنجمٍ يلمضْنَ لامعاتٍ في مجرّاتِ.

فيا لِجلالِ مَن كَوَّرَ خُدودِ شُموسِ في مَجرّات..

ويالِكمالِ مَن صَوَّرَ زنودَ سعفاتِ نخلٍ في فلوات.

تدارسَتْ سّعفاتي خطبَ غفلَتي عن جَمالِهُنَّ وجفواتي. فقالت إحداهُنَّ:

(دعوا الأمرَ لي وسأُكفيكُمُوهُ بخِصلَةٍ من ظفيراتي، بين فخذيهِ أقصِفُ بها، ومُفلِحَةٌ دوماً كانت رِهاناتي، وأُقسِمُ لكم على فلاحي في نِزالاتي).

ولقد وَصَفَت ثمَّ عَصَفَت فَلَصفَت فَقَصَفَت فإنتصَفَت خِصلتُها بين ساقيَّ، فأكرِمْ بها مِن سَيّدَةٍ للرُّماة!

ولقد حَلفَت وماأَخْلفَت، فأوفَت فقَطَفَت رهانَ المُباراةِ، فإنعَطفتُ إليهِنَّ مُتَلاطِفاً مُتَعاطِفاً أتمايلُ معهُنَّ بالمحاكاة، وصَفَفتُ أستَوصِفُ مُتدبراً بإنبهارٍ بديعَ إنشائِهُنَّ بتؤدةٍ وبأناة..

يا لجلالِ عَلَقٍ فارِقٍ في تضفيرِ سعفاتِ نخلتي مِن تحتِ قِطْمِير لنواة!

يا لكمالِ أَلَقٍ بارِقٍ في تدويرِ خُدودِ المجرّاتِ، وفي تكويرِ ظَهْرِ السلحفاة !

يالِجلالِ فَلَقٍ خَارِقٍ في تصويرِ بُؤْبُؤِ ريمِ الفلاة، وفي تَصييرِ جُؤْجُؤِ صَدرِ القَطاة!

وإن هي إلّا هُنيهاتٌ من تَمايلٍ بتَسهيدٍ وتَنهيد، حتى رأيتُني أعُودُ لسِياحَتي مع خَدِّ الشَّمسِ السَّعيد، هنالكا فيما وراء عالَمِ السّعفِ النّضِرِ الرّغيد، والقعيدِ على جِذعِ النّخلةِ ليُظَلِّلَه وإيّايَ من لَهيبِ سَمومِ شديد، وعادَ بصري يندفعُ وحيداً وبتهورٍ عتيد، ليرتفعَ على وَجَلٍ في فضاءٍ بعيدٍ حميدٍ مجيد.

آه، لو أنَّك أيها البصرُ كنتَ بصراً من حديد!

إنَّ أمرَ السماءِ -ياسُعيفة- لهوَ أمرٌ فريد، لمَن تَشَهَّى إنعِتاقاَ مِن الدَخائلِ وعنها يَحيدُ، وإرتِحالاً عن هَشاشَة الرَّذائلِ ولها يُبيدُ،

وتَلَهّى بإنفتاقِ الدَّلائلِ ولها يُريدُ، وإتصالاً بِبَشاشةِ الفَضائلِ وبها يُشيد،

فما هامَ بين شِهابِ ذاكَ الفضاءِ المهيبِ من أحدٍ, وما حامَ في رهابِهِ من أحدٍ، إلّا ذو فؤادٍ رشيد.

فذاكَ فضاءٌ تَضِلُّ وتَضمَحِلُّ فيهِ نَقلاتِ القَدَمٍ، وغيرُ مُستَلطِفٍ لقيودِ الآفاقِ، ولا مُستَعطِفٍ حدودَ المَكان.

فضاءٌ تَتَعَطَّلُ وتَتَبَطَّلُ فيهِ خَفَقَاتِ القِدَمِ، وغيرُ مُنخَسِفٍ بخُطوطِ الإشراقِ ولا مُنكسِفٍ بخُيوطِ الزّمان..

فضاءٌ خوارزمُهُ عقيدٌ، أساسُهُ واحِدٌ فَريد، وأُسُّهُ مُتَمَدِّد صوبَ عددٍ سرمديٍّ بعيد!

فضاءٌ مجيدٌ، أبوابُهُ مُقفَلَةٌ، ومَفاتِحُ غيبٍه لا يَملكُها إلّا واحدٌ أحدٌ رشيد، ولن تُفتَّحَ إلّا في يومٍ تكونُ إلسّماءُ فيه وردةَ كدهان بلا أخاديدَ ومامن زغاريد .

ألا وإنَّ الأقلامَ قد رُفِعَت، بَعدَما ضَبَطَتِ وربَطَتِ الحَياةَ بوفاةَ، وحَطَّت بربِاطِها على جِباهِ الولاةِ الطُّغاةِ، كما أطَّت بهِ شِفاهُ الرُّعاةِ الحُفاةِ، فلا يدفعُ الوفاةَ نَعيُ النّعاةِ، ولا ينفعُ معها نَهيُ النّهاةِ.

ألا وإنَّ الصُّحُفَ قد جَفَّت، بَعدَما خَطَّت فَتَخَطَّت بإذكارِ الفرقانِ، أخبارَ إنجيلٍ وزبرٍ وأسفارَ توراة، فما من أداةٍ تَشِطُّ لتُفَقِّطَ، ومامن دواةٍ تَنشَطُ لتُنَقِّطَ،

وقد تَمَّ الأمرُ فيما كانَ مِن مَسَرّاتٍ ومِن مُواساة، وفيما هو كائنٌ مِن عصاةٍ وهُداة، ومِن بغاةٍ وبناةٍ.

وقد ألَمَّ الأمرُ بما سيكونُ من كائنٍ آت: مِن مُناداةٍ ومِن مُناجاة، وكلٌّ في كتابٍ مسطورٌ، وقد بَرِقَ مِن فريدِ مِشكاة، مابَصرَهُ العِلمُ ومالم يُبصِرْهُ بَعدُ من عِلمٍ لدعاةِ، وعن رواياتٍ لرواة.

كنتُ أُمَنّي النّفسَ جاهِداً بِفَتحِ بابٍ من أبوابِ غيبِ ذاكَ العنان، مُتَّكأً على مافي خيالي من تَعَلُّمٍ وتفَهُّمٍ للمعان، لعلّيَ أبْتَهِجُ بلَمعةٍ من لمعاتِ لا زمانَ، أو أتَوَهَّجُ بشمعةٍ من شمعاتِ حقائق لا مكان، فينْبَلِجُ لي كيفَ صَنَعَ فأبدعَ المليكُ، وكَوَّرَ خدودَ شمسي بلا لُغُوبٍ وبلا شَريك، وكيفَ صَدَعَ فصَوَّرَ ضفائرَ نخلتي مِن كُروبٍ بِتَدْرِيكٍ وبلا تَشبيك؟

وفُجأة، وبلا صَريرٍ...

تَفَتَّحَ بابٌ من تلكَ الأبوابِ! فَعَسى أنَّهُ قد جاءَنيَ بنبأٍ يقينٍ وشيك..

كانَ خلفَ البابِ نملةٌ إسمُها...(دِلدِل). ودِلدِلُ, نَملَةٌ مُمتَلِئةُ القوامِ، حاضِرةُ الحُجَّةِ وذَكيّةُ، قَرَصَتْ بَطنَ قَدَمي الطّريّة، فَجَعَلَتني أستفيقُ من رِحلَةِ في عوالَمِ غَيبٍ صَفيّةٍ وَفيّة، فعادَتْ بي إلى وَحلةِ عوالَمِ شهادةٍ شَقيّةٍ وشَكيَّة. وفي عَوالِمِ الشَّهادةِ، تَبدو النّفوسُ وكأَّنَّها..

في كارها سَعْيَّةٌ سَبْيَّةٌ، فَتراها تَبيعُ وتَستَبيحُ بَسماتٍ منِ كَذِبٍ لأجلِ لقمةٍ من عَيشٍ هَنيّة.

وفي دّارِها سَوْيَّةٌ سَخْيَّةٌ، فتراها تَستَريحُ وتَذيعُ بسماتٍ من إرثٍ عَذِبٍ من بَسَماتِ أولي بَقيّة.

أمَا وأنَّهُ أولى لبَسَماتِ الكَذِبِ ثمَّ أولى أن تكونَ على الشَّفتَينِ عَصيّةً،

وأن تَحبسَ بَسَماتِ كَذبٍ زَرْيّةً رَزِيَّةٌ،

وأن تَلبسَ بُردَةَ بَسَماتٍ مُوَحَّدةً، في كارِها كما في دارها، و مُورَّدَةً برَسَماتٍ وَردِيّة، ومُؤبَّدَةً بِنَسَماتٍ رَوِيّة،

وآنئذٍ وحسب، ستَبيتُ النفوسُ زَكيَّةً زَهيَّةً وبَهيّة.

لكأنَّي ب"دِلدِلَ" نَملةٌ مأمُورةٌ بحِراسةِ عوالَمِ الغَيبِ تلك، وبهِا كانَت حَفيّةً؟ لكأنَّها مَبعوثةٌ من حَرَسِ الأبوابِ بِرِسالَةِ تحذيرٍ مُبَيِّنةٍ وجَليّة:

"أنِ إبتعدْ يا أنتَ وإلّا ستَرتَعِد بشُهُبٍ حارِقاتٍ غيرِ خَفيّة، من رَاصَدٍ نِبالُهُ لرَميتِهِ وَفِيّة".

ثمَّ...

***

علي الجنابي – بغداد

.................

* كان ذلك (صفحةً من كتابي؛ "حواري مع صديقتي النّملة").

 

في المثقف اليوم