أقلام ثقافية

برواز من سعف الأوزان

محمد عرجونياختار الشعر العربي بروازه من سعف الأوزان. لأن وظيفته الأولى كما جاء في بعض الأبحاث، ومنها كتاب الدكتور مبروك المناعي، "الشعر والسحر"، هو التعزيم والتعويذ. فكان الوزن بقافيته يسعى إلى التأثير وسحر المتلقي بعشبة الإيقاع الخاضع للوزن وترياق القافية، لجعله طيعا يمنح قوة الاعتقاد في زمن الخرافات، خاصة وأنه كان متداولا بين الناس بأن لكل شاعر قرين بوادي عبقر. فها هو مثلا لافظ بن لاحظ قرين امرؤ القيس ومدرك بن واغم قرين الكميث بن زيد و مسحل بن جندل قرين الأعشى الخ... ثم أصبح الشعر هكذا قويا بما يحوم حوله من خوارق، يشحد الهمم ويمدح أو يذم بين القبائل والملوك والأمراء، مقابل هبات وهدايا نفيسة، فتعددت وظائفه الخطابية. كما استعمل أيضا كنظم يبسط التعلم بالحفظ إنشادا، كما هو الشأن بالنسبة لألفيتي ابن عاشر وابن مالك.

الشعر إذن حينها كان لغة شفافة تمرر بقوة الإيقاع المضبوط بالوزن رسائل في إطار وعي متقاسم لا يخلق شرخا عميقا بين أفراد المجتمع، قبل التركيز على لآلئ اللغة، رغم تناثرها عبر لوحة القصيدة. هكذا كان ومازال لدى شريحة واسعة بين الشعراء المعاصرين. لأن الوعي لم يكن يعاني من تمزيق كما هو الحال في عصرنا الحاضر. حاليا مع ما يعيشه الفرد في ظل وعي شقي، هل تبقى لوحة الشعر ببروازها، أم التفاعل الذي تفرضه المتغيرات الاجتماعية والسياسية والإيكولوجية، تجعل منه مادة لغوية أخرى تسيح خارج البرواز، علما أن أولى المحاولات كانت منذ ما سمي بالنهضة مع ما اصطلح عليه كذلك بمدرسة الإحياء أو مدرسة التجديد أو مدرسة أبولو أو مدرسة الشعر الحر أو مدرسة شعر التفعيلة إلخ...، بعد كبوة أطبقت على الشعر واللغة تقهقرا وانحطاطا بالغين، فيكون زمننا شاهدا على ولادة جنس آخر من رحم الشعر وليس من رحم النثر كما استطاب البعض بكسل أو بعجز فرمى في بركة الشعر بحجرة هجينة أسماها قصيدة النثر؟ فيصبح الشعر تحفة فنية وصناعة لا يمكن الحفاظ عليها إلا من قبل من تدرب عليها، رفقة "مْعلم" أو تحت جبة "شيخ"، بصفتها صناعة تقليدية عابرة للزمان، لا يتقنها إلا صانعا تقليديا ماهرا؟

***

محمد العرجوني

في المثقف اليوم