أقلام ثقافية

بوشكين والجواهري

ضياء نافعتابعت قبل ايام قليلة اخبار وصور افتتاح بيت الجواهري وتحويله الى متحف ادبي رشيق، و هو البيت المتواضع الذي يقع بمحلّة القادسية في بغداد، والذي كنت عدة مرّات في ضيافته واعرفه حق المعرفة،  وكم فرحت بتلك الاخبار (رغم اننا جميعا غارقون في بحر الاحزان)، وقد ذكّرتني هذه الاخبار بحدثين اثنين في مسيرة حياتي، يرتبطان بالجواهري وبوشكين معا، وعلى الرغم من انها بسيطة جدا، الا ان بعض الاصدقاء (الذين يعرفون تفاصيلها)  قالوا لي، ان هذه الاحداث الطريفة تستحق ان تكون ضمن الوثائق الكثيرة عن الجواهري والادب الروسي خصوصا، وروسيا عموما، وها انا ذا اسجّلها واهديها لهم، و كذلك اهديها لكل من يرى، ان الجواهري هو بوشكين العراق من حيث المكانة الطليعية في قمة الشعر ببلديهما، ومن حيث الاهمية الفكرية وقيمتها في تاريخ الادب الروسي والعربي، رغم كل الخصائص والسمات الفنية المتباينة جدا لكليهما و الاختلافات  الجوهرية الهائلة بينهما.

الحدث الاول جرى في بداية سبعينيات القرن العشرين ببغداد، اذ وصل آنذاك وفد سوفيتي كبير برئاسة نائب رئيس حمهورية ارمينيا السوفيتية، وكان الوفد يضمّ عشرات الفنانين والفنانات والمستشرقين السوفيت، وقد طلبت منيّ وزارة الثقافة والاعلام ان اكون مترجما للوفد، فوافقت بكل سرور، وكان في برنامج الزيارة حفل ضخم في السفارة السوفيتية ببغداد، وكان الجواهري من جملة الشخصيات العراقية البارزة المدعوة لذلك الحفل، وقد حضر الجواهري باناقته المعروفة الجميلة، و(عرقجينه!) الكردستاني المتميّز على رأسه، وخصلات شعره الاشيب وهي (تتطاير!) يمينا ويسارا، واستقبله السفير السوفيتي بحفاوة كبيرة، وطلب منه – بعد فترة - ان يلقي للضيوف بعض اشعاره، وهكذا وقف الجواهري بقامته الرشيقة شامخا – كعادته - في القاعة، وألقى (بصوته الرخيم وطريقته الفنية وحركات يديه)  بعض الابيات من قصيدته المشهورة عن سواستبول –

يا سواسبول سلام..لا ينل مجدك ذام..يذهب الدهر ويبقى.. من تفانيك نظام..الخ..الخ

وصفّق له الحاضرون (من عراقيين وسوفيت) باعجاب وحماس كبيرين، وطلبوا منيّ، باعتباري المترجم للوفد، ان (اترجم !!) لهم القصيدة، فوقفت امامهم و طرحت عليهم سؤالا بالروسية، وهو – لو ان بوشكين يلقي قصيدة له امامكم، فهل يقدر المترجم ان يترجمها الى لغة اخرى بشكل فوري كما تطلبون منّي الان؟ ضحك الجميع وهم يقولون – طبعا لا يقدر، فقلت لهم، وانا ايضا لا اقدر ان اترجم قصيدة الجواهري، فهو بوشكين العراق والعالم العربي، وانما استطيع ان احدثكم عن مواضيعها ومضامينها وبعض صورها الفنية ليس الا، وهذا ما حدث، ثم ذهبت الى الجواهري وهمست في اذنه بايجاز حول ذلك، وقلت له، انني أسميته – بوشكين العراق والعالم العربي، فانتعش الجواهري جدا لهذه التسمية (مثل الطاووس، كما اخبرني فيما بعد احد الحاضرين في الحفل آنذاك)، خصوصا ان الجواهري كان محاطا بالفنانات الروسيات، وهي مسألة حسّاسة جدا (لبوشكين العراق!) ونقطة ضعفه... 

الحدث الثاني كان في مدينة فارونش الروسية عام 2009، عندما قام مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش الحكومية بافتتاح التمثال النصفي للجواهري، والذي كان ولايزال التمثال الوحيد خارج العراق للجواهري، وقد ذكرت في كلمتي، التي القيتها  في حفل الافتتاح، باعتباري مدير المركز المذكور (المركز الذي اقترح فكرة اقامة التمثال وحققها فعلا رغم كل الصعوبات)، ان هذا التمثال هدية من رئيس دولة العراق (وكان آنذاك جلال الطالباني) الى جامعة فارونش الروسية، لأن الجواهري هو رمز العراق، وان الاعراف الدبلوماسية حول المعاملة بالمثل  تقتضي الان، ان يقدّم رئيس دولة روسيا الاتحادية بالمقابل هدية لتمثال بوشكين الى جامعة بغداد، لان بوشكين رمز روسيا، مثلما الجواهري رمز العراق، وقد استطاع مركز الدراسات العراقية – الروسية في جامعة فارونش (وبالتعاون مع الجمعية العراقية لخريجي الجامعات الروسية، والتي كانت عندها برئاسة المرحوم ضياء العكيلي) من تحقيق هذا المقترح فعلا، وتم افتتاح تمثال بوشكين في حدائق كلية اللغات بجامعة بغداد. ان التمثال النصفي للجواهري في جامعة فارونش والتمثال النصفي لبوشكين في جامعة بغداد – هو الاعتراف الرسمي والعلني الصريح، بان الجواهري يجسّد الادب في العراق امام العالم، وان بوشكين يجسّد الادب في روسيا امام العالم، وهذا يعني، ان بوشكين والجواهري يقفان الان جنبا لجنب.

ما احوجنا الى تأمّل ابداع هذين الشاعرين الكبيرين، وما احوجنا الى القيام بدراسات مقارنة بين نتاجاتهما... 

***

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم