أقلام ثقافية

ما المقصود بقصيدة النثر؟ (2)

مرة أخرى، عودة إلى الشاعر أولويسيوس Aloysius Bertrand نظرا لكونه لم يلق الاهتمام المستحق في حياته أولا، لأنه كان في نظري يسبق زمانه وما اجتهد فيه لم تستسغه قبيلة الرومنسيين آنذاك أمثال هيجو وألفريد دو فينيي إلخ... ثم ثانيا، لكونه لم يعمر طويلا حيث توفي وعمره لا يتجاوز 34 سنة على إثر مرض السل (1807-1847). الموت إذن هي التي أغلقت في وجه عناده باب المثابرة في الإبداع. وثالثا، لم ينتبه إليه النقاد والمهتمين فيما بعد، إلا نادرا، خاصة على إثر نشر كتابه Gaspard de la nuit، لهذا عند الحديث عن نبع النثر الشعري لا يستحضرون غالبا، حسب علمي إلا بودلير ورامبو، علما أنه من ناحية الإنتاج يفوقهما بكثير. هنا نتساءل: أليس هذا التجاهل متعمدا من قبل قبيلة الرومنسيين والرمزيين، أي من قبل الذين استطابوا الشعر التقليدي ولم تكن لديهم رغبة في البحث خارجه؟ فمقارنة بهم، كان أليوسيوس حاضرا بكتاباته، ومتعدد المواهب، حيث كان صحافيا ومسرحيا وقاصا وشاعرا، الشيء الذي حرك فيه حرقة الإبداع والتفكير في الشكل أكثر. لهذا نجده يصغي إلى حماسه ويبتكر المصطلحات التي كان يراها تناسب نوعية كتاباته الأدبية. ولأنه متأثر أيضا بالفنون التشكيلية والرسم فإنه في أول الأمر وجد ضالته عند الفنان رامبرانت Rembrant الذي كان يبدع فيما سمي ب: بامبوشاد Bambochades، وهي عبارة عن لوحات فنية تمتح من الواقع، تقدم شخصيات في وضعيات مختلفة، لكنها كانت تبدو وكأنها تعيش في عالم خرافي وخيالي نظرا لبعض الرسومات التي كان الفنان يضيفها على مستوى خلفية اللوحة، تمثل حيوانات أو كائنات غريبة وكأنها تسبح في فضاء اللوحة أمام أعين الشخصيات المرسومة، التي تبدو مرعوبة. مثل هذا الواقع المثخن بالخيال، هو الذي يؤثث كتابات الشاعر المتمرد، خاصة تلك التي تمتح من القصة و الخرافة، فيختلط الواقع المحكي بالخيال الشعري. ثم ما يبرهن على عناده وبحثه المستميت، هو عدم اقتناعه بهذا المصطلح مرة أخرى، فعوضه بمصطلح آخر: خيال نزوي Fantaisies. لأن كتاباته النثرية كانت تسبح في الخيال، تماما كما هو الشأن بالنسبة للشعر. استعماله لهذا المصطلح كما يبين أحد الباحثين، هو تأثيره بالموسيقار والكاتب النمساوي اماديووس هوفمان الذي كان يستعمل نفس الكلمة بالألمانية والتي كانت تستعمل في ميدان الموسيقى وتعني مقاطع موسيقية، لهذا استعمل هذا المصطلح خاصة في حديثه عن كتابه Gaspard de la nuit ، والذي يتشكل من مقاطع تماما كما هو الشأن بالنسبة للموسيقى، وبطبيعة الحال يبقى هذا المصطلح حمالا كذلك لمفهوم الخيال النزوي.

في غمرة الرومانسية إذن، و وسط شيوخها والمتشبثين بالشعر الموزون بكل "بحوره" المتشكلة من مقاطع صوتية syllabes لا يجب الخروج عنها، تجرأ "اليوسيوس برتران" Aloysius Bertrand على خلخلة ذلك التقليد، سواء بشعرنة الحكاية الخرافية أو بالتجديد في المقاطع الصوتية وتوزيع الأبيات بعيدا عن التوزيع التقليدي، حيث كان كل بيت يتشكل غالبا من الأسكندري(12) أو من إحدى عشرة أو عشرة أو ثمانية مقاطع صوتية الخ... يبدع هذا الشاعرعلى شكل عُرِف بالمعيَّن (في الواقع نصف معين)، وهو شكل مسطح متساوي الأضلاع كما يتضح في هذه القصيدة(أسفله) المتكونة من عشرة أبيات مختلفة فيما بينها من حيث عدد المقاطع الصوتية، الأمر الذي لم يكن مستساغا حينها، لأن القصيدة كان عليها أن تبقي على نفس عدد المقاطع التي تبتدئ بها، خاصة المقاطع المتداولة والتي سبقت الإشارة إليها آنفا. (للإشارة أيضا، كان لهذا الشكل تأثير على الشاعر مالارمي، وابولينير الذي أبدع فيما سمي ب: كاليجرام calligrammes، أي القصيدة المجسمة):

du

pendu

le squelette

le soir, reflète

les feux du couchant

là-bas, au penchant

morne et sévère

du calvaire

des trois

croix

**

Aloysius Bertrand

ما يمكن استخلاصه:

جرأة الشاعر والباحث في الخروج عن طاعة القبيلة الرومنسية، بل والخروج عن طاعة الشعر التقليدي الذي كان مقتنعا بأنه تعبير صالح للثقافات القديمة، لم يبدع في الشكل فقط، وإنما حتى على مستوى المصطلح رغبة منه في التفرد الكامل بإضافة جنس آخر من صلب الشعر والنثر، ولأنه كان واعيا في نظري بعدم دقة المصطلح الذي سوف يبرز مع بودلير ومازال متداولا: الشعر النثري، فإنه لم يستعمل هذا المصطلح الهجين.

مصطلح تبنته ربما من غير تمحيص، الثقافة العربية رغم غناها، تماما كما تبنت مصطلحات المدارس الأدبية الغربية التي كانت تبرز في فترات متفاوتة نتيجة لحركات اجتماعية وسياسية وفلسفية وفكرية، تهم المجتمعات الغربية، ولم تكن نتيجة نزوة اعتباطية، أو نتيجة تقليد كما فعل مثقفونا منذ ما سمي بالنهضة، متناسين أو جاهلين أن هذه الحركات التي تشكل كتلة إبداعية في تناسق تام بين كل عناصر التطور: هندسة معمارية، فن تشكيلي، موسيقى، مسرح، شعر إلخ....، لا تمت بأية صلة بالسياق التاريخي والاجتماعي والثقافي العربي.

***

محمد العرجوني

في المثقف اليوم