أقلام ثقافية

لقائي مع نجيب محفوظ

اضطررت لقضاء معظم أيام عام 1982 في مدينة عروس المتوسط، الإسكندرية المصرية. المدينة الجميلة بعمارتها المتأثرة بالذوق والنكهة الإيطالية واليونانية، وبمناخها المعتدل صيفاً وشتاءً وبطيبة أهلها وبسعة شواطئها التي لا نهاية لها. كنت اعاني من ظروف صعبة جداً، احتضنني حينها مجموعة من الأصدقاء العراقيين والمصريين، بطريقة لا يمكن نسيانها. سكنت في عمارة "ستانلي" في شارع الجيش وهو شارع الكورنيش البحري. وعمارة ستانلي التي تشرف على البحر مشهورة جداً، لأنها متميزة في تصميمها ولونها الأحمر، ولأن مالكها هو الممثلة المصرية ماجدة (ماجدة السلمي). كان لديّ الكثير من الوقت اقضيه بمفردي خاصة في الصباح حينما يكون معظم الأصدقاء في أعمالهم. صنعت لنفسي برنامجاً يومياً. اركب سيارتي واذهب الى بائع صحف في محطة الرمل وسط البلد، اقلب بعض الكتب، واشتري بعض الصحف والمجلات، ثم اذهب الى عمارة ستانلي كي اركن العربية (السيارة)، واعبر شارع الكورنيش الى فندق سان جيوفاني لأجلس في المقهى الساحلي. المكان هادئ جداً حتى في صباحات أيام الصيف. اجلس وحيداً، عفواً لست وحيداً لأني بصحبة صحيفتين او ثلاث وبعض المجلات وكتاب لأنيس منصور: في صالون العقاد كانت لنا أيام، الذي استمتعت بقراءته كثيراً.

عثرت في صحيفة الأهرام على سلسلة مقالات بعنوان: علي: إمام المتقين، للكاتب الغني عن التعريف عبد الرحمن الشرقاوي. وكانت ترد للصحيفة متابعة مكثفة من القراء. يتهم أحدهم الشرقاوي بأنه تشيع ويحاول في مقالاته نشر الفكر الشيعي، ويتهمه الآخر من انه شيوعي وينشر أفكاراً شيوعية من خلال نشره لأفكار وسيرة الأمام علي (ع). كان الشرقاوي يرد على هذه الادعاءات وغيرها وتنشرها جميعاً صحيفة الأهرام. تحولت هذه المقالات لاحقاً الى كتاب تحت نفس العنوان.

وذات يوم وانا جالس في مقهى الكورنيش، لاحظت شخصاً جالساً بمفرده امامي بزاوية 45 درجة. اراه جيداً لكنه لا يراني. جالساً بمفرده يشرب قهوته دون استعجال، لابساً نظارات سوداء غامقة. عرفته للتو، انه الأديب والكاتب القصصي نجيب محفوظ. أنا ونجيب محفوظ نشرب قهوتنا في نفس الوقت ونفس المكان ونفس الزمان، إنها حدث كبير، وإن كان كل واحد منا يجلس بمفرده وعلى طاولته. تركت الصحف والمجلات، وأخذت اراقب الكبير نجيب محفوظ الذي قرأت معظم كتبه، وشاهدتُ معظم أفلامه، واعجبت بها جميعا دون استثناء. يجلس دون حراك، لا يلتفت يميناً او شمالا. عيناه على الأفق البعيد، ربما البعيد جداً كي يوصل ناظريه لأفق يتلاحم به ازرقان هما سماء وبحر اسكندرية.

فكرت ان اذهب اليه وأحييه واعرفه بنفسي واعجابي لأعماله. ربما سوف يدعوني لشرب القهوة معاً ويسمح لي بالحديث معه عن العراق وشعب العراق واحياء بغداد القديمة وعن احياء وازقة النجف الأشرف. احدثه عما يُحب، عن الأحياء الشعبية في بغداد، عن الدهانة وعكد الاكراد والشورجة وعكد النصارى والمربعة وسوق حنون ومحلة الفضل وباب الشيخ وأسواق الصدرية والشواكة وغيرها الكثير. محلات شعبية جرت بها احداث وقصص مشابهه لما حدث في خان الخليلي وفي ثلاثيته الرائعة: بين قصرين، والسكرية، وقصر الشوق. سأحدثه الكثير الكثير وسأقنعه ان يكتب عن احياء بغداد، عن فاتناتها وفتواتها، وباشواتها وبؤسائها. سأحدثه عما يحدث في دهاليز السلطات، وسأقول له ان أدباءنا مشغولين بأدب المديح وإرضاء الحكام، كي يبعثوا مجد الجواري في صالات خلفاء هذا الزمان، وتحولوا بحرفية متقنة من مُصلحين سطحيين الى وعاظ متميزين للسلاطين. سأقول له نحن بحاجة ماسة اليك كي تكتب قصتنا ومعاناتنا وبؤسنا وقلة حيلتنا. وشردتُ في التفكير كثيرا واستغرقت في عالم كدتُ على وشك ان اصدقه. ولكني حينما افقت كان قد دفع اديبنا الحساب ورحل. اعدتُ الكرة في اليوم الثاني والثالث، ولم أجرأ للتحدث اليه. احسست من انني سأكون متطفلاً عليه، اكسر الهدوء الذي يتمتع به والخيال الذي يسبح في اجواءه. انه قادم هنا للتخلص من حر القاهرة وصخبها، كي ينعم بالراحة والهدوء ويستجمع افكاراً لصور اجتماعية كي يكتب عنها للبشرية على شكل قصة واقعية عن أحياء مصر الشعبية وما يدور فيها من حب وغرام وهيام، وخيانة وغدر وانتقام، فكيف لي ان أعطله عن عمل ابداعيٌ فذ كهذا ولو للحظات.

خاب ظني في اليوم الرابع، لأني ذهبت لنفس المكان ولم أراه. فقررت ان اشرب قهوتي مع اديبين كبيرتين هما أنيس منصور وعباس محمود العقاد صاحب "العبقريات". ففتحت كتاب: في صالون العقاد كانت لنا أيام، وانغمست في قراءة احداث وحوارات مثيرة كما يصفها أنيس منصور، دون ان أدير رأسي يميناً او شمالا، ودون ان يلفت اهتمامي أي كان سواء أكان من البشر او الجان.

***

محمد حسين النجفي

 7 أيلول 2022

في المثقف اليوم