أقلام ثقافية

أحوال العاشقين

شهرزاد: أكاد أحلق معك في ذلك العالم العلوي .. وانت تتحدث عن البريق في عيون العاشقين، فهلا أخبرتني عن علامات العشق؟

شهريار: أراك محلقة فعلا .. حسناً، كما أسلفنا: إذا تحقق العشق بتشاكل النفوس ثم إمتزاجها لاح بريق في العيون التي كانت طريقا سالكا للتناسب والتكامل، وتحوّل لحظها الغامض وسرّها العميق الى علامات سعادة غامرة في عيون المحب كلما دنى المحبوب، وهو الى مرارة متفاقمة أقرب إذا حالت بينهما الأيام والظروف، والعجب العجاب أن يستلذ المحب قساوة المحبوب أو فراقه لطارئ، فترتسم على وجهه ابتسامة حائرة تملأ محياه بينما الدموع تتساقط على شفتيه، وإنه الى بَهَتٍ في وجه أقرب، فلا يعرف فرحه من حزنه، وإنسهُ أن يعتزل الناس، ويخاطب النجوم، ويرقب إشراقة الشمس علّها تاتي بخبر سعيد من المحبوب الغائب، وأعزُ اللحظات على قلبه تلك التي يطرأ فيها ذكر الغائب عن ناظره، الحاضر في أعماقه، أو يمرُ بقربه شبيه لمحبوبه في الشكل، أو المشية، أو العِطر، فاذا لمح إبتسامة كتلك التي يعشقها إنمحت علامات البَهَت من وجهه، وتألق بريق الحب في عينيه أيما تألق، وإنه ليتحين الفرص ليثني على صفات محبوبه من غير أن يذكره، كأن يعلن أمام الحاضرين أعجابه الشديد بخلق يتخلق به ذلك المعشوق وإنْ كان غير محمودٍ لدى الناس، ويبذل جهدا منقطع النظير للدلالة على محاسن ذلك الخُلقِ وأثره الجميل على النفس، ولا يبرح الحديث عنه حتى يرى علامات القبول والإعجاب لدى الحاضرين ، أو ينصرف مغاضبا فيثير عجبهم بشكل مغاير عمّا كان يطمح إليه .

والعاشق هو المنافس الوحيدة للأم التي - كما ذكرنا آنفا - تستلذ بألم الولادة، لتفيض محبة وسعادة، وهي تكحل عينيها برؤية مولدها بعد مخاض عسير تقترب فيه من الموت ألف مرة، وهما (العاشق والأم) يفندان قاعدة ذهبية يستند إليها أهل علم الكلام وشرّاح الحب والغرام، ومن بينهم الأمام الغزالي إذ يقول: (فالحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فان تأكد ذلك الميل وقوى سمي عشقا والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب فإذا قوى سمى مقتا) .

وهنا أسأل ياشهرزاد أي شيء أكثر أيلاما للعاشق من وجد الفراق أو قساوة المحبوب وتمنعه ؟ لكنه بخلاف القاعدة - التي لم يتفرد بها ابو حامد الغزالي- يجد لذة عجيبة في ذلك الألم تقربه من الموت لكنها تزيده عشقا، والموت عنده أهون من نفرة يتسبب بها الألم عادة، فتلك اللذة كعسل بمرارة العلقم (لايجد عنه مصرفا) ليداوي آهات صدره التي تكاد تخرج معها روحه، وأنه ليعلم علم اليقين أن ذلك العسل لا يزيده إلا آلاما ووجدا فلا شفاء إلا بوصل المحبوب .

ودعينا هنا ياشهرزاد نستعرض قصة أوردها عبقري العشق ابن حزم الأندلسي في رسالته الخالدة إذ يقول: (ولقد علمتُ فتى من بعض معارفي قد وحل في الحب وتورط في حبائله، وأضر به الوجد، وأنصبه الدنف، وما كانت نفسه تطيب دعاؤه إلا بالوصل والتمكن ممن يحب، على عظيم بلائه وطويل همه، فما الظن بسقيم لا يريد فقد سقمه ؟، ولقد جالسته يوماً فرأيت من إكبابه وسوء حاله وإطراقه ما ساءني، فقلت له في بعض قولي: " فرج الله عنك " فلقد رأيت أثر الكراهية في وجهه)

ثم أنشد الأندلسي من شعره لوصف الحالة فقال:

وأستلذ بلائي فيك يا أملي ... ولست عنك مدى الأيام أنصرف

 إن قيل لي تتسلى عن مودته ... فما جوابي إلا اللام والألف .

فكلمة (لا) ياشهرزاد هي أول ما يتبادر الى العاشق الموجّعِ وَجْدا، المعلولِ صبابة، الذي يقترب كل يوم من الموت بلا علّة مرئية، حينما ينصحه المقربون بالسلوان او البحث عن بديل يداوي القلب العليل .

شهرزاد: أراك تُفرق بين العاشقَينِ بلفظي المحب والمحبوب فما السر في ذلك بعد أنْ علمنا إنَ الإمتزاج النفسي (العشق) هو علاقة تكامل؟!.

سأجيبك في المرة المقبلة

***

بقلم : عمار عبد الكريم البغدادي

....................

* من وحي شهريار وشهرزاد (75)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

 

في المثقف اليوم