أقلام ثقافية

ما بين المحب والمحبوب (2)

شهرزاد: ألا تتفق معي على أن العشق لايخضع لمعايير الجمال وميزان الأخلاق الحميدة؟! .

شهريار: نعم، أتفق معك تماما، فالعشق أعظم من أن يرتبط بجمال الصورة أو حسن المظهر، وبرغم أنه إمتزاج نفسي وإستحسان روحي لكنه لايتحدد بالخلق الرفيع، ولأنه علّة ذاته، فهو مترَفّعٌ عن كل هذه الميزات التي نحبها في الناس عامة، وتقربنا الى الكثيرين من حولنا، لكنها تتهاوى حينما نسلك طريق العاشقين، ولو كان جمال الوجه، أو سحر الإبتسامة، أو طول القامة، أو رشاقة الجسم علّة العشق لما أحب الأجمل الأدنى بهاءً ورونقا، يقول الشاعر العربي:

تعشّقها شمطاء شاب وليدها   وللناس فيما يعشقون مذاهب

العشق مذاهب ياشهرزاد لكنها أبدا لا تخضع لمعايير الجمال أو الرقة أو حسن الخلق، ولذلك قيل: "العشق أن ترضى بالمحبوب بحسناته وسيئاته"، غير أن المعنى الظاهر لهذا القول لا يستقيم، فقد علمنا أن العشق يكون، ابتداءً، بطلب النفس الباحثة عن شبيهتها، وهي تتجاوز حجب الطباع الأرضية، وهذه الطباع قد تكون سيئة، ولما كان الإمتزاج بين النفسين في (أصل عنصرها الرفيع)، أي في عالمها العلوي النوراني، فهو بالنتيجة إتصال مترفع عن جميع المقاييس الأرضية، وهو متحقق، سلفا، قبل الرضا بحسنات وسيئات المحبوب، لكن تلك الطباع الأرضية كلما تجانست بين العاشقَينِ زادت من قوة التمازج والإنسجام، وأضحت مصدر طمأنينة وسكينة وسلام، وفي الأحوال كلها لايَعجبنَّ من رآى بيضاء تعشق أسودَ، أو جميل مظهر يعشق شعثاء، أو كريما يعشق بخيلة، فهو تشابه غير مدرك في أصل النفوس، لكن تناسقَ الهيئة وإنسجام الطباع المحسوسة يزيده رونقا وبهجة .

شهرزاد:حيرتني يارجل!، ألم تقل إن الحواس الأربع مدخلات للنفس ومقدمات للعشق؟!، فما الذي جذب الجميل الى القبيح قبل أن تتعاشق نفساهما؟!

 شهريار: لاحجة لكِ عليّ أيتها المتبحِّرة في المعاني، فذلك القبيح قد يكون صاحب خلق رفيع، أو صوت ساحر، ولو تجاوزنا سحر الصوت كمدخل حسي، فإن الخُلق الرفيع جمال غير محسوس تدركه النفس عبر البوابة الأعظم،،ذلك هو العقل، وإنه لكنفٌ لكل جمال مرئي أو حسن مدرك، والخًلق الرفيع والموقف المَهيب، والشجاعة ورجاحة العقل، والطبع السخي، والحلم والصبر، وسائر الأخلاق الحميدة، والطباع الرشيدة جمال مدرك غير محسوس أو ملموس، وأي مما ذكرنا قد يكون حافزا لمرآة النفس (العين) للبحث عن نظيرتها خلف حُجُب (القبح الأرضي) الذي لم يَرُقْ للحواس الأربع بوصفها بوابات حسية لتمازج النفوس .

ولعلك نسيتِ ما ذكرناه في أول هذا الحديث، حين أشرنا الى، ان "الحب المدرك بالبصيرة أعظم مما يدرك بالحواس"، وقلنا أيضا: " شتان ما بين لذة البصيرة وحب الحواس، تلك البصيرة الموصوفة بالعقل أو بالنور أو بالقلب، وجميعها تلخص بالحس السادس للانسان، ويا له من حس عظيم لا يفقده إلا محروم من سعادة الدنيا ونعيم الأخرة " .

وعلى هذا الأساس تكون اللذة المتحققة من التعلق بخُلق رفيع أو صفة حميدة أعظم تحفيزاً للنفس الباحثة عن شبيهتها خلف حجب الجمال أو القبح الظاهر على وجه المحبوب أو هيأته، ولو صحت المحبة بينهما لرأى المُحب في محبوبه جملا لا يراه أحد غيره، فإن لجمال الروح حسن خفي لا يعرفه إلا العاشقون .

*** 

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

 

 

في المثقف اليوم