أقلام ثقافية

شئ عن بليخانوف والادب الروسي

قال لي احد اصدقائي القدامى قبل ايام قليلة (وهو كان واقعيا يلومني تقريبا !!!)، انه لم يجد اسم المفكر الروسي الكبير بليخانوف في مقالاتي بشكل عام عن الادب الروسي طوال كل هذه السنوات التي أنشر فيها هذه المقالات، وسألني متعجبا، عن السبب، الذي جعلني (أتجاهل بليخانوف !!!)، وهو الاسم اللامع والمهم في تاريخ الادب الروسي. فوجئت أنا بدوري عند سماع سؤال صديقي القديم، وسألته  (متعجّبا ايضا !!!) -  ومن أكون أنا، كي يكون لي موقف (التجاهل!) تجاه مفكّر شهير في تاريخ الفكر الروسي مثل بليخانوف؟  ضحك هذا الصديق وقال، ان جوابك يعني، انك تحاول ان تتهرب فعلا من الجواب الدقيق عن سؤالي المحدد والحاسم، وهذا دليل ملموس و  اكيد يبيّن انك تتجاهل بليخانوف حقا، وانك – ببساطة وصراحة - لا تريد الاقرار او الاعتراف بذلك، اذ كيف يمكن الكتابة عن الادب الروسي دون التوقف عند بليخانوف او الاشارة الى آرائه حول هذا الادب، او الاستشهاد باقواله، التي جاءت في العديد من مؤلفاته حول الادب الروسي واعلامه، وخصوصا، في مجال النقد الادبي؟.

لم أكن مستعدا في الواقع– لا نفسيا ولا فكريا -  لمناقشة صديقي وتفسيره لجوابي السريع حول هذا الموضوع، ولم أرغب بتذكيره، انني اكتب عن مختلف جوانب الادب الروسي طوال حياتي باعتباري قد درست هذا الادب (في عقر داره !) واصبحت متخصصا به وعاشقا له  ايضا، وانني عملت بعد انهاء دراستي لمدة اكثر من ثلاثين سنة في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد، اي ضمن اختصاصي العام والدقيق، وساهمت مع زملائي الآخرين بتدريس هذا الاختصاص للشباب العراقي في تلك الجامعة، واضطررت ان اقول لصديقي فقط، ان نظرته الى الادب الروسي (وتلك هي المصيبة !) ترتبط بالسياسة قبل كل شئ، وليس بالادب الروسي ومظاهره واعلامه، وان هذه النظرة العراقية (والعربية طبعا) تنعكس في آراء الكثيرين من زملائي العراقيين والعرب ايضا، وان هذه النظرة (الضيّقة والمحدودة جدا) قد أضرّت واقعيا بالادب الروسي في عالمنا العربي بشكل عام، لانها (اي هذه النظرة) قد حوّلت هذا الادب الانساني العملاق الى ظاهرة سياسية ليس الا، والظواهر السياسية – كما هو معروف – غير دائمية، بل مؤقتة دائما، وذكرت له ايضا، اننا عانينا كثيرا من (تسييس) الادب الروسي في العراق (سواء في الاوساط  الرسمية للدولة آنذاك، او في الاوساط الشعبية ايضا) اثناء عملنا بالقسم المذكور في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بشكل خاص. لم يتفق صديقي مع تلك الآراء التي قلتها له، بل واحتج على كلامي هذا، وذكّرني، باني كتبت مقالات عديدة عن لينين وستالين وخروشوف وعلاقتهم بالادب الروسي وتفاعلهم مع اعلامه ومكانتهم في مسيرته، ولكنني لم اكتب بتاتا عن علاقة بليخانوف بهذا الادب، ولهذا قال لي، انه (استنتج !) تجاهلي للمفكر بليخانوف بشكل متعمد، وان هذا موقف واضح لكل من يتابع تلك المقالات عن الادب الروسي. شرحت لصديقي، ان كتاباتي عن لينين وستالين وخروشوف ارتبطت بموقعهم الرسمي في حكم الاتحاد السوفيتي وانعكاس هذا الموقع على مسيرة الادب الروسي، وان هذه ظاهرة طبيعية في البلدان ذات الحزب الواحد الحاكم، والذي لا يسمح بتاتا للرأي الآخر ان يتعايش ويتفاعل في ذلك المجتمع، وانني تكلمت في مقالاتي هناك عن وقائع محددة في تاريخ الادب الروسي ومصائر اعلامه، ولهذا، فان بليخانوف لا يدخل ضمن هذه الفئة، التي حكمت روسيا، او كانت في رأس السلطة هناك، وحاولت ان اوضح لصديقي، ان هذا المفكّر الروسي الكبير قد برز في مجال الفلسفة الماركسية وعلاقتها المتبادلة مع علم التاريخ وعلم الاقتصاد بالاساس، وان كتاباته عن النقد الادبي الروسي كانت مرتبطة بالذات مع اهتماماته تلك، وتوقفت طويلا عند معرفة بعض الفئات العربية اليسارية لبليخانوف نتيجة ترجمة بعض (ونؤكّد على كلمة بعض) نتاجاته الفكرية الى اللغة العربية في اواسط القرن العشرين، وحاولت ان ابيّن له (ولو بشكل غير مباشر) ان رأيه حول مقالاتي في الادب الروسي جاء نتيجة لتلك المعرفة الجزئية لبليخانوف عند ذلك القارئ العربي المرتبط بالسياسة – اولا واخيرا - ليس الا، وحدثته في النهاية عن اقوال احد اساتذتي الروس حول بليخانوف، وخلاصتها، ان قيمة هذا المفكر الروسي تكمن في انه (طوّع) النظرية الماركسية حسب متطلبات الواقع الروسي، وان نظرته لم تكن (نظريّة مجردة او جامدة ليس الا !) وانما كانت حيوية وترتبط بواقع المجتمع الروسي ومستوى تطوره بصدق، ولهذا حاز على احترام الجميع، بما فيهم المضادين له فكريا.

صمت صديقي قليلا، ثم قال لي، انك ألقيت عليّ محاضرة باكملها عن بليخانوف، واود ان اشكرك عليها. ضحكنا معا، واخبرته، ان هناك مثل روسي طريف يقول – الصديق القديم افضل من صديقين جديدين....

***

أ.د. ضياء نافع

في المثقف اليوم