أقلام ثقافية

الحب الغاية (1)

وصلنا في المرة السابقة الى قولك انني ادافع عن العشق كمرتبة شرف وحيدة في قاموس المتحابين، وإن بعض الباحثين في ماهية العشق يصفونه بالمرض. 

ودعيني هنا افصل لك الاجابة: نعم حقا ما قلت، وهم يرجعون ذلك المرض الى أسباب متعددة فمنهم من وصف العشق بـ" القوة الغريزية التي لادخل للعقل فيها،وهي تُدخِلُ العاشق في حالة من الهستيرية، لاسيما وإنّ الجسم يفرز هرمون الأوكسيتوسين الذي يتفاعل مع بقية هرمونات الجسد، فيعطي إحساس الإنجذاب الشديد نحو المحبوب بسبب رغبة قوية لا يوقفها أحد ".

وهذا القول مردود على أصحابه من المتأخرين، فالتفسير العلمي للأنجذاب بسبب هرمون الأوكسيتوسين لا يثبت أن العشق مجرد رغبة جنسية أو حالة هستيرية إذا ماعلمنا أن الغدة النخامية لا تفرز هذا الهرمون في حالة النشاط الجنسي فقط، وإنما تفرزه أيضا في حالة الإحساس بالثقة في الشخص المقابل، وهو يزيد من فرص الحوار والتفاهم،كما تفرزه في حالة السكينة والهدوء، وأي سكينة أعظم ياشهرزاد من السويعات التي تتحقق فيها حالة الإمتزاج بين نفسين عاشقتين؟!.

وأمّا قولهم: رغبة قوية (لا يوقفها أحد)، فهي حجة عليهم، فلو كانت مجرد رغبة جنسية لأنقضت بإنفاذها، لكنها حاجة روحانية ملحة لا نهاية لها،  بل إن الامتزاج النفسي المتحقق منها يزيد العشق رونقا وقوة وقدرة على البقاء الأبدي لبقاء النفس وأبديتها.

وقد يستدل البعض، على إنه مرض، بقول ابن الجوزي: (إن العشق شدة ميل النفس إلى صورة تلائم طبعها، فإذا قوى فكرها فيها تصورت حصولها وتمنت ذلك، فيتجدد من شدة الفكر مرض).

فنقول: إن العشق مرتبة عالية من الإتصال ولاشك إنها تتعب الأجساد بصورها الأرضية فتسيل لها الدموع، وتتفطر منها الأكباد، وتتداعى لجلالها القلوب،وتئن في حضرتها الأبدان، فهي حالة علوّية نورانية دخلت في صراع مع حجب أرضية قبل التمازج، وهي تقاوم الأهوال والأحوال المانعة للوصل بعد الإتصال، ومابين الوصول الى التمازج، ومنع الوصل بعد الإتصال، آلامٌ عظيمة لا يعرفها إلا العاشقون ممن كابدوا الوجد، وكل ما يعتلي العاشقين من المكابدة والآلام والأنّات وأمراض خفية بلا علّة معروفة هو من نتائج تلك المعاناة، وليست صفة أصيلة حتى نصف العشق بالمرض بدليل أن العاشِقَينِ المتصلَينِ في عالم الأرواح العلوي، المتواصِلَين بعالم الأجساد السفلي في غاية السعادة، وأن كان الشوق بينهما لا يفتر أبدا.  

وأمّا شدة التفكير الدائم في النفس الشبيهة التي تحدث عنها  ابن الجوزي فإشارة الى  البحث الحثيث عن صفات النفس الشبيهة قبل الإتصال، وإن العاشق ليسخر جميع إمكانياته الروحية والجسدية للتعرف على توأمه الروحي، وفي ذلك جهد جهيد يُعيي الطبيب كما يُعيي العاشق، ومن هنا جاء لفظ (مرض) في قول ابن الجوزي.

 فإذا تحقق الإمتزاج ياشهرزاد سكنت النفس الى شبيهتها، وزالت الإضطرابات النفسية ومعظم العلل الجسدية إلا علّة الشوق الدائم، فهي دلالة العشق الأبدي، والشغل الشاغل لكل عاشقَينِ دوام العشق فلا هدف لهما سواه.

شهرزاد: وما جدوى العشق إنْ كان بلا هدف؟.. وكيف لنا إن نواصل الطريق من دون  أهداف نحلم بتحقيقها؟!.

شهريار: كما إن العشق علّة نفسه فان غايته دوامه وبقاؤه، وحينما تتحد العلّة والغاية في شيء واحد تتلاشى الأهداف، كالجنة لاعلّة للسعادة فيها إلا بدوامها، فهي متجددة بذاتها، وليس غريبا أن لايكون للعشق هدف، وسبق أنْ ذكرنا أنَ علماء النفس يرهنون السعادة المؤقتة بالطريق الى تحقيق الهدف، فإذا وصل الناس الى أهدافهم التي طالما حلموا بها، وبذلوا التضحيات من أجل بلوغها، تهاوت السعادة شيئا فشيئا حتى ينطفئ بريقها، ولذا فهم يبحثون عن هدف جديد ليتجدد إحساسهم بالسعادة وهم في الطريق إليه.

ولقد علمنا أن أعظم إحساس بالسعادة يبلغه العاشقان بتحقيق الإتصال النفسي فهو أساس المحبة الأبدية، وكل ما بعده من مظاهر بهجة وحزن، ونضارة وشحوب، وآهات وضحكات، وسهر ودموع، وتسامٍ وتضحيات ماهي إلا خلجات تعتلج في صدور العاشقين بين الوصل والحرمان.

فإن قيل: إن الهدف من العشق دوام الوصل، وعلى العاشقين السعي الحثيث إليه، فجوابه: لو كان الوصل الدائم عنوان السعادة واللذة في العشق لما دام العشق بين أجساد متفارقة لأعوام وأعوام، فهو ليس كغيره من درجات الحب الأدنى بحاجة الى رابط مكاني او جسدي لضمان بقائه، هو إتصال نفوس لايخضع للمعايير الدنيوية، ولذا فأنا أسميه (الحب الغاية)، وصدقا أقول: لو أن عاشقين على وصالٍ دائم تمرّدا على الإمتزاج النفسي بطباع أرضية، لإختارا البعاد عن  قناعة، ولو لحين، حتى لا يتكدر صفو الإتصال الروحاني بسلوكيات متهورة.

وللحديث بقية

***

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

في المثقف اليوم