أقلام ثقافية

خلاصة العاشقين

لو تحدثنا دهورا عن صفات العشّاق لم نبلغ الكمال، فلكل عاشق تجليات وأحوال عجيبة، لكنهم يشتركون ببعض ما ذكرنا، والمحب العاشق دائم النظرِ إلى المحبوب وهو يتحرى خفاياه، ويبذل الغالي والنفيس لينال رضاه، وإن السعادة التي ترتسم على وجه العاش، إذا لاح المحبوب، لا تجاريها نضارة ولا رونق ولا بهجة إلا ما تنشئه أشعة الشمس النافذة الى قطرات الندى المتساقطة من ورود النرجس، في ساعات الفجر الأولى، من آلوان الفرح والسرور، وفي كل مشهد متكرر كأنهما يلتقيان للمرة الأولى، وإن التغير الذي يطرأ على طباع و سلوكيات المحبيَنِ بعد أن يقع العشق عجب عجاب، فكل منهما يسعى الى تجنب ما يكره الآخر، ويعاهد نفسه على هجره، ويصير محبا لطباع محبوبه، فلا يُعرف أيهما تعلمَ من الآخر، وأيهما تطبع بطباع وسلوكيات نظيره الروحي، بل إن أحدهما يراقب كل صغيرة وكبيرة بشريكه النفسي من أجل أن يردد كلماته، ويختارعباراته، ويقلد حركاته، ويتخلق بأخلاقه، وقمة سعادة المُحب أن يكتشف حلما قديما أخفق المحبوب في الوصول إليه، وإنه في شغل شاغل حتى يحقق له ذلك الحلم، فسعادته أن يرى البهجة في عيون (توأم الروح)، وفي دعائه ومناجاته لربه لا يذكر أحدا قبل محبوبه، ويتفنن بدعائه لتبارك السماء تلك المحبة النورانية، وتديم الوصل والرضا بينهما، وكل ما ذكرنا من صفات العاشقين تجتمع تحت مظلة الإنشغال الدائم بمن يعشقون، حتى كأن أحدهم لا يرى سوى معشوقه، ولا يفكر بغيره، ولا يريد إلا إسعاده في كل حين .

ويروى أن قيس بن الملوح لحق بكلب (محبوته ليلى) كي يدله على مكانها، فمرّ على جماعة يُصلّون، وعندما عاد مرّ بهم ثانية فقالوا له:

أتمرّ علينا ونحن نصلي ولا تصلي معنا؟

فقال: أكنتم تُصلون؟!

قالوا: نعم .

فقال: والله ما رأيتكم، ووالله لو كنتم تحبون الله كما أحب ليلى لما رأيتموني .

وماذكرناه في هذه الصفحات هو خلاصة الخلاصة لتجليات العاشقين الذين تحدثت عنهم آلاف الكتب على مدار الزمان، من غير أن تحصي أحوالهم وأسرارهم، وعِظَم معاناتهم، وفضاءات بهجتهم وهيامهم، ومعاني العشق أعظم من كل وصف، فلا تُدرَك حقيقتُها إلا بنفاذها الى النفس، ومحاكاتها للقلوب والأبدان .

والعاشق بين أمواج بحور متلاطمة برغم أن نفسه تبلغ أبهى صور السكينة بتمازجها مع النفس الشبيهة، لكن النفسين المتصلتين، بعيدا عن المقاييس الكونية والطباع الأرضية، هائمتان في علمهما العلوي، ولا تعرفان الإستقرار أبدا حتى وهما في حالة السكون، بدليل أن زفير الشوق الدائم وشهيق الوجد المتجدد لا يتوقفان في وصل أو فراق .

والعشق ليس بمرض أبدا، وهيهات أن يكون الداء ملهما للإبداعات، أو مبهجا برغم العَبرات، أو مغّيرا نحو أسمى الغايات، أو معلّما للتضحيات، او مفسّرا للَحْظ والآهات، أو معبرا عن أسرار الذات، إنما هو العشق .. تناسب روحاني دائما في الدنيا وربما بعد الممات.. إنه بإختصار شديد (الحب الغاية)، إنه إكسير الحياة .

***

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

في المثقف اليوم