أقلام ثقافية

نقدات مانعة في الغصون اليانعة

تحفل مؤلفات أدبنا العربي القديم، برؤى وآراء عميقة في الشعر والنثر، وتغوص عميقًا في بحور الشعر لتنبئ قارئها بأن أجدادنا العرب القدماء، قد ميّزوا بين النظم والخلق، على حد تعبير ناقدنا العربي المبدع عبد القاهر الجُرجاني، صاحب "دلائل الاعجاز" و"اسرار البلاغة". فلم يروا في كل نظم شعرًا، ووضعوا أسسًا متينة للعملية الشعرية، لا تبتعد كثيرًا عمّا توصّل إليه معاصرون غربيون في مؤلفاتهم ذائعة السمعة والصيت. لا أقول هذا من باب التباهي المجاني المقيت، أو التغني بالماضي.. أمجاد يا عرب أمجاد ، وإنما أقوله من باب التشجيع على قراءة ما خلّفه الاجداد من إبداعات نقدية ذات قيمة وعمق.

فيما يلي أتوقّف عند نقدات متعمّقة وردت في كتاب "الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة"، لمؤلفه ابن سعيد أبي الحسن علي ابن موسى الاندلسي، وهو كتاب تراثي هام، صدرت طبعته الاولى في أواسط الاربعينيات، وتكرّرت طبعاته فيما بعد وها أنذا أعتمد في قراءتي هذه الطبعة الرابعة منه، بتحقيق الشاعر المثقّف المبدع إبراهيم الأبيار . قبل أن اتوقف عند النقدات المُلمح اليها، اود أن اقدّم فكرة عامة عن الكتاب موضوع الحديث. يضم الكتاب ترجمة غيرية موثقة ومُعتمِدة على المصادر التي توفّرت حين تأليف صاحبه له، ويقدّم معلومات، لا تخلو من نقدات، لعدد من شعراء المائة السابعة، قسم منهم من المشرق العربي والقسم الآخر من المغاربة. أتوقف فيما يلي عند عدد من النقدات التي ضمّها الكتاب.

*يقول المؤلف في ترجمته لابن مُجاور، إنه كان معروفًا بتوطئة الاكناف ومعاونة الادباء والشعراء والاخذ معهم غير متميّز عنهم، حتى كأنه إذا باحثهم واحد منهم، مع ارتقاء في الشعر إلى الدرجة التي تأخذ بمجامع القلوب والالباب وترتفع عن طبقة العلماء والادباء والكتاب، ومَن امعن الفكر فيما اورد له في هذا المجموع، علم أن له فكرة غواصة وأن معاني الاغراب والفاظ الابداع ليست عليه بمعتاصة.

لنتوقف هنا عند تعبيري الاغراب والابداع، ولنتمعّن فيهما لنرى أن للشعر لدى الاجداد مفهومه العميق بعيد الغور، فقد رأى المؤلف هنا أن الاغراب والابداع هما عمادان هامان في عملية القول الشعري، وهو ما يعني أنه ليس كل من نظم الكلام قال شعرًا، فالشعر يحتاج والحالة هذه، إلى الاغراب، وهو ما يذكّر بالمصلح الحديث وأقصد به الانزياح، بالضبط كما يحتاج –الشعر-، ليكون جديرًا بصفته هذه إلى الابداع وهو ما يعني الإتيان بما هو جديد وعدم الاركان إلى التكرار في القول الشعري.

*ويورد في ترجمته للشاعر العراقي شُميم الحليّ قوله إنه " تذاكر في شأن هذا الرجل مع بعض أهل بلده، فلم يعجبه ما وصفه به من عدم غوص في الفكرة والنهوض إلى الطبقة العالية ذات الاغراب والابداع. فجاءني بعد أيام وقال ما تقول أيضًا فيمن يصدر عنه مثل هذا:

وقائلة تخضب فالغواني قعود عن مصاحبة الكهول

فقلت لها المشيبُ رسول ربي ولست مسوّدًا وجه الرسول

فقال: أمثل هذا الرجل تقصّر به، وهو إمام العلماء والزهاد! فقلت له: الآن ارحت واسترحت، ان كنت منصفًا لم أقصر به من جهة علمه ولا زهده بل من جهة الشعر، لكونكم أوجبتم له من الشهرة والتقديم فيه ما لا يقوم عليه ببرهان. فنفض ثيابه وقام يجرّ أهدابه.

تعقيبًا على هذا نقول، إنه من الواضح أن الرجل قد فصل بين القائل والقول، وشدّد على أهمية النص الشعري ذاته، فهو لا يُنكر على شُميم علمه وزهده، وإنما ينكر عليه الاتيان بالشعر الحقيقي ممثلًا بالإغراب والإبداع، وهو ما يلتقي به مع المدارس النقدية الحديثة التي تدعو إلى قراءة النص بغض النظر عن قائله أًيًا كان. وشبيه بقوله هذا ما يقوله في ترجمته للشاعر التلمساني وهو " إن علمه بالأدب فوق شعره"، فهو يعترف له بطول الباع في المعرفة الادبية غير أنه يرى أن علمه هذا فوق شعره وغنيّ عن القول أنه إنما يفصل هنا بين ثقافة الشاعر ،العلم/ المعرفة وبين ما يضعه من شعر.

*من الطرائف النقدية في كتاب "الغصون اليانعة" أشير إلى الطُرفتين النقديتين التاليتين الواضحتين. أما الاولى فترد ضمن ترجمة المؤلف للشاعر العبدوسي، وتأتي في الكتاب على النحو التالي" وهذا كما قال الملك الاشرف لبعض الشعراء وقد مدحه بقصيدة فيها أبيات سلخ الفاظها ومعانيها من شعر غيره: أما تستحي أن تنشدني لنفسك ما أحفظه لغيرك؟ فقال: يا سلطان قد يقع الحافر على الحافر. فقال: نعم ولكن للميدان كله لا. فضحك جميع من حضر من أهل الادب، وصار ذلك الشخص عندهم يعرف بالميداني. وأما الثانية فترد في الكتاب ضمن ترجمة المؤلف لهُذيل الإشبيلي، وتأتي على النحو الطريف التالي" أخبرني أنه وصل إليه طالب متخلّف ليقرأ عليه وقال له يومًا: يا أستاذ، ما الكَموج؟ فقال: وأين رأيت هذه اللفظة؟ قال في قول امرئ القيس:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

فقال له: نعم، الكموج: دويبة من دواب البر تحمل الكتب ولا تعلم ما فيها.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم