أقلام ثقافية

التجريد في ميزان الذهب

يُعلي الفنان الروسي فاسيلي كاندنسكي (1866- 1944)، في كتابه المعروف عالميًا "الروحانية في الفن"، يعلي من شأن الروح في عُمق العمل الفني الجدير بهذه الصفة، ويرى أن ما يُبطنه العمل الفني هو الاهم، مؤكدًا أن الفن يوحي في العادة ولا يُصرّح.

صدر هذا الكتاب عام 1911 وتُرجم إلى العديد من لغات العالم، على اعتبار أنه يمثّل التبرير النظري لظهور المذهب التجريدي في الفن التشكيلي، وقد صدرت الترجمة العربية لهذا الكتاب عام 1994 بتعريب فهمي بدوي. تقديم الفنان محمود بقشيش . تعقب وملاحظات د. صبحي الشاروني.

يُقسّم كاندنسكي كتابه إلى فصلين اثنين، وقد جاء الاول تحت عنوان: في الجماليات.. حركة المثلث. ثورة الروح والهرم. فيما حمل الفصل الثاني عنوان: فن التلوين. سيكولوجية اللون. لغة الشكل واللون. النظرية. وينهي كاندنسكي كتابه بخاتمة تلخيصية.

الكتاب رغم محدودية عدد صفحاته. 132 صفحة من القطع الصغير بما يشمل المقدّمات والتعّقيبات، يتضمّن الكثير من الاستطرادات، كما يقول بقشيش في تقديمه له أيضًا، إلا أن الافكار الرئيسية فيه شفّافة تبدو في البداية غامضة.. وتتضح كلّما توغّلنا في قراءة صفحات الكتاب.4644 لوحة

يوجّه كاندنسكي نقدًا شديدًا إلى الفنانين التقليديين، ويمهّد لثورته الفنّية التجريدية، بتوجيه سهام نقده إلى كل ما هو مُكرّر ومُعاد وتقليدي، وهو يفعل ذلك دون الانتقاص من قيمة فنانين مُجدّدين على طريقتهم مثل الفرنسي المبدع بول سيزان، ويوجّه سهام نقده أيضًا لمدعي الفن الذين يقدّمون أعمالهم الفنية حسب الطلب بلغة عصرنا، كما ينتقد اولئك الكسالى الذين لا يُرهقون أنفسهم بقراءة متعمّقة تحتاج إليها لوحة تجريدية تضمّنت العديد من الاشارات واحتاجت، سبرًا لأغوارها، إلى قراءة متأنية وخاصة.

يربط كاندنسكي في أكثر من واحدة من فقرات كتابه بين الفن التشكيلي وبين الموسيقى بطريقة عضوية حتى أنه يرى أن هناك صعوبة للفصل بين الفنين، أما فيما يتعلّق بالألوان والتلوين وسيكولوجيتيهما، فإنه يقدّم اجتهادات خاصة يطلق خلالها على كل لون صفة ومعنى..

يذكر أن تاريخ الفن التجريدي يعود إلى الفترات الاولى للإبداع الفني الانساني، غير أن التجريدية كمدرسة فنّية حديثة قائمة بذاتها، جاءت خطوةً متقدمةً على التكعيبية مثلًا، ففي حين أن التكعيبية أكّدت أهمية هدم الاشكال وإعادة بنائها بصورة جديدة تسعى إلى تفكيك الاشكال المنحنية إلى أصولها المستقيمة عبر تحويل كل الخطوط إلى مستقيمات وكل الحجوم إلى مكعّبات ضمن محاولة لإعادة بناء الاشكال وبعثرتها ومن ثم رسمها من عدة زوايا في لوحة واحدة.. فقد سارت التجريدية خطوةً أبعد فابتعدت عن المظهر الواقعي للأشكال والعناصر، متعمّدة البعد عن الواقع ورافضة تناول أي شيء واقعي، فالفنان التجريدي في عُرف التجريديين، يبدأ عمله من الذهن، مبتدعًا اشكالًا والوانًا يحرص ألا يكون لها أي ارتباط بالواقع.

في تعقيب د. صبحي الشاروني على هذا الكتاب، يُعرب عن تحفّظه على تقريب كاندنسكي بين الموسيقى والفن التشكيلي، رائيًا أنه لا يمكن ربط نوع من الفنون، مثل الرسم بالموسيقى، لأن الرسم في هكذا حالة سيكون تابعًا للموسيقى، وهذا ما لا تقبله خصوصية النوع الفني. أما فيما يتعلّق باجتهادات كاندنسكي فيما يخص الالوان والتلوين، فإن الشاروني يتوصّل بعد مقارنة صارمةٍ في تعامل الشعوب مع الالوان واختلاف الفتها لها، إلى أن كاندنسكي إنما عبّر عن ذائقته الخاصة ولم يعبّر عن قاعدة عامة. الشاروني يقدّم احترامه الشديد لحرية الفنان التشكيلي ويثمّنها عاليًا، ويدعو الفنانين المصريين تحديدًا، للإجابة عن السؤال الملح وهو: هل ما تنتجونه مناسب للعصر الحاضر.. وهل إنتاجكم في خدمة الفن.. أم أنكم ترسمون لأجيالٍ قادمة لم تولد بعد؟.. ويستشهد في نهاية تعقيبه برأي لناقد فنيّ المانيّ زار القاهرة، في أواسط التسعينيات.. وقال للفنانين هناك. إنكم. بحاجة إلى الفنون التشخيصية بعد قرون عاشتها بلادكم داخل الرقش والزخرفة، بعكس أوروبا التي تحتاج حاليًا إلى الاشكال اللاموضوعية في الفن، بعد أن عاشت قرونًا طويلة لا تشاهد من الاعمال الفنية غير الاشكال الانسانية.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم