أقلام ثقافية

لطائف القصص

يَحدُث اننا نقرأ عددًا وفيرًا من القصص لكاتب واحد، ويتبيّن لنا فيما بعد أن قصةً أو قصتين رسختا في ذاكرتنا، ويحدث في المقابل أننا نقرأ قصةً واحدة/ بتيمة، أو قصتين فقط لكاتب واحد فترسخان في أذهاننا ونتذكرهما في هذه المناسبة أو تلك على أنهما من لطائف ما قرأناه من قصص. من هذه القصص الأخيرة أذكر أنني قرأت قصتين، ولم أطّلع على غيرهما فيما بعد، للكاتب العربي المصري سيد جيد، كان ذلك قبل العشرات من السنين، وكان أن قرأت هاتين القصتين في عددين مُتقاربين من مجلة "المجلة"، التي كان يتولى رئاسة تحريرها آنذاك- في السبعينيات الأولى وما قبلها، الكاتب المبدع يحيى حقي، هذا الكاتب الذي صرّح نجيب محفوظ أنه واحد من رهط من الكتاب العرب الذين استحقوا جائزة نوبل الأدبية " مثلما استحقها هو.. وربما أكثر". وأذكر أنه كان يساعد حقي في تحرير هذه المجلة الراقية، رهط من الكتاب اللامعين منهم: أنور المعداوي، فؤاد دوارة ويوسف الشاروني.

رغم أن الكاتب سيد جاد لم يكن معروفًا في حينها لديّ، كما كان معروفًا لدي محمد أبو المعاطي أبو النجا مثلا، وهو من كتاب تلك المجلة، فقد أثارتني هاتان القصتان، أيما إثارة، وقد أعجبت بما ضجّتا به من سرعة القص وتتابع الكلمات والجُمل، وهو ما يتساوق مع اللحظة التي يدور السرد حولها، هذه اللحظة هي عبارة عن لقاء سريع تمّ بين رجل وامرأة غريبة، لقاء ومض كأنما هو حلم حط مثل طائر شارد مرغوب به.. على يد الرواي، وما لبث أن ولى وطار، ليعيده "قطار الساعة الخامسة" وهذا عنوان احدى القصتين، إلى وكناته البعيدة المجهولة. لقد تمكّن راوي تلك القصة وأختها الشبيهة بها، من حبس أنفاس قارئها، أنا على الأقل، وجعله يعيش حلاوة اللقاء بالضبط كما جعله يعيش مرارة الفراق وقسوته.

أسجل، الآن، وأنا اكتب هذا الكلام، ملاحظتين أراهما غايةً في الأهمية، وقد يتعلّم منهما البعض من الإخوة المهتمين، في طريقهم الطويل مع الإبداع الادبي، هاتان الملاحظتان هما:

أ- أننا لا نحتاج لقراءة عشرات القصص لكاتب ما، حتى نكتشف قدراته الإبداعية، وربّما يكفي أن نقرأ له قصة أو قصتين حتى يدخل قائمة اهتماماتنا، وقد يؤكد ما أقوله هنا، ما تردّد عن أهمية الكيف في مقابل الكم، فالكاتب المبدع قد ينتج القليل من الإبداع الحقيقي، ليتخذ موقعه إلى جانب أقرانه من الكتاب المبدعين، ولعلّي لا أبتعد كثيرًا إذا ما قلت إننا عادة ما أحببنا قصة أو قصتين لكاتب ما فأدخلناه إلى قائمة مَن نتذكرهم ونعلن إعجابنا بكتاباتهم، هل قرأتم القصة القصيرة "وردة لعيني إميلي"، للكاتب الأمريكي وليم فوكنر.. المشهور وذائع الصيت؟ ألا تكفي مثل هكذا قصة لمنح كاتبها مكانةً خاصة بين كتاب القصة ومبدعيها المُجلّين في العالم أجمع؟ وهل أذكّر الإخوة القراء بعد هذا كله بأنه يوجد هناك كتاب مبدعون لم ينتجوا أكثر من عمل روائي إبداعي واحد؟ إذا كنتم لا تصدقون ما أقوله اسألوا العم جوجل، يعطكم الجواب الكافي والشافي أيضًا.

ب- إن الحياة الأدبية عادة ما ترفع أسماء لا تستحق وتتجاهل أسماء تستحق الذكر وبجدارة، وهو ما يعني أن الإعلام يلعب دورًا كبيرًا في بروز كُتّاب وتجاهل آخرين لا يقلون إبداعًا عنهم إذا لم يكونوا أكثر إبداعا منهم، صحيح أن الزمن قد يعود بعد نحو الألف عام لتسليط الضوء على مَن تم تجاهلهم من معاصريهم، إلى أن أعاد احد المجتهدين اكتشافهم كما حصل عندما سلّط الكاتب العربي المصري عباس محمود العقاد الضوء على الشاعر العظيم ابن الرومي.. فأصدر كتابه المشهور عنه. لكن السؤال الذي يبقى قائمًا والحالة هذه إلى متى سنبقى، نحن بني البشر، نتجاهل مبدعينا الحقيقيين وننتظر من يكتشفهم بعد سنوات وسنوات من النسيان؟ الم يحن الوقت لظهور ناقد أو أكثر لينقّب في بطون الكتب والمجلات، لإعادة الاعتبار إلى أولئك المبدعين الذين تم تجاهلهم.. لا لسبب إلا لأنهم ربئوا عن أن يروّجوا لأنفسهم، كما يفعل أنصاف وربما أرباع مبدعين؟ وسؤال آخر: إلى متى ستتكرر مآسي كتاب ومبدعين حقيقيين يعيشون معنا وبيننا.. يجوعون في حياتهم.. ويشبعون كلامًا بعد رحيلهم؟

لقد أثارتني قصة "قطار الساعة الخامسة" وأختها الرائعة، فتابعت كتابات سيد جاد، في كل مكان وجدتها فيه، ومما أذكره في هذه المناسبة، إن هذا الكاتب الصامت المبدع، نشر في أحد أعداد مجلة "المجلة" ذاتها، مقالة طويلة وخفيفة دم، لخّص فيها كتاب "كيف أصبحت كاتبًا" للكاتب الأمريكي الهام ارسكين كالدويل، كما ترجم من الانجليزية إلى العربية كتابين أراهما هامين أيضًا، هما:" عشر روايات عالمية" للكاتب البريطاني سمرست موم، والآخر رواية "تور تيلا فلات" للكاتب الأمريكي جون شتاينبك، وقد صدرت ضمن السلسلة الأدبية الشعبية المعروفة " "روايات عالمية"، ومن المؤكد أن هناك كتابات وفيرة لهذا الكاتب، فهو كاتب ومترجم مبدع.. لا يمكن لمثله أن يصمت.. إلا في يومه الأخير.

***

بقلم: ناجي ظاهر

في المثقف اليوم