أقلام ثقافية

الكاتبُ قارئًا

لماذا يقرأ الكاتب الكتاب تلو الكتاب ومع هذا يواصل دون ملل أو كلل؟.. سؤال طالما طرحه كتّاب ومثقفون على أنفسهم، لا سيما اذا كانوا مهووسين بالكتاب وعوالمه الرحيبة أمثالنا. وما هو الدور التي تؤديه وتقوم به القراءة في العملية الإبداعية.. اختلفت الآراء في الإجابة عن هذا السؤال الاشكالي، فمن الكتّاب وهؤلاء قلة، مَن ذهب إلى أن الكاتب يُفترض ألا يقرأ الكتب بادعاء أن المواضيع المفترض معالجتها في الكتابة الإبداعية لا تتجاوز الثلاثة والثلاثين موضوعًا أساسيًا، كما رأى الكاتب الفرنسي ذائع الصيت جورج سيمنون مبتكر شخصية المفتش ميجرييه، ومنهم أيضًا،  الكاتب الإنجليزي كونان دويل مبتكر شخصية المحقّق المشهور في شتى بقاع العالم وأقصد به شرلوك هولمز، فقد صرّح/ دويل أكثر من مرة أنه لا يقرأ كتابات الآخرين خشية التأثر بها!!، اما الكاتب الأمريكي البارز ارسكين كالدول صاحب "قطعة ارض الله الصغيرة"، فقد قسّم المبدعين الادبيين إلى قرّاء وكتّاب وقال في سيرته الذاتية "سمها خبرة"، إنه اختار أن يكون كاتبًا وليس قارئًا..، في المقابل لهؤلاء ذهب معظم الكتاب المبدعين في العالمين العربي والاجنبي إلى أهمية القراءة في شحن بطارية الكاتب للدخول إلى مملكة الابداع الادبي بخطى ثابتة، حتى أن عددًا من الدارسين الباحثين ذهبوا إلى أنه يوجد داخل كل قارئ جاد مشروع لكاتب مبدع. أكثر من هذا ذهب كُتّاب منهم المرحومان عباس محمود العقاد وفاروق مواسي إلى أن الكاتب القارئ تحديدًا، إنما يقرأ ليمد حياته بشحنات أخرى من الحياة والحيوية، وقد ردّد العديد من الكتاب ضمن الإجابة عن سؤال حول القراءة والاقبال الشديد عليها، إلى القول إن كل كِتاب جديد هو حياة جديدة تضاف إلى حياتي.. وأكد هؤلاء أنهم إنما يقرؤون الكتب لأنهم يحبون الحياة ويريدون عيشها بعدد الكتب الجيّدة التي يقرؤونها، قالوا هذا مؤكدين أنهم يقرؤون الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيهم!

مَن يُطالع سير الكتّاب والادباء المبدعين سيلاحظ دون بذل الكثير من الجهد، أنهم إنما جاءوا إلى عالم الابداع الادبي بعد أن قرأوا هذا الكتاب أو ذاك، أو بعد أن قضوا أوقاتًا طيبةً في مكتبات خلفها آباؤهم، أجدادهم أو أقارب لهم وراءهم، لتتحوّل بالتالي إلى منارة تفتح أمامهم أبوابًا مُغلّقة طالما أحبوا فتحها والدخول إلى مرابعها الفينانة الغنّاء.

بالعودة إلى سؤال القراءة وأهميتها بالنسبة للكاتب المبدع، أرى أن الكاتب، المعاصر خاصة، إنما يقرأ بنهم للعديد من الأسباب، فهو يقرأ للتثقف، والاضافة الإبداعية المتوقعة منه، كما يقرأ للاطلاع على تجارب ثقافية أدبية إنسانية، من المفترض أن تُشكّل سلسلةً متواصلة الحلقات وهو ذاته يود من جُماع قلبه، يريد ويسعى بكل ما لديه من جُهد وقوة لأن يكون واحدة من تلك الحلقات الرائعة في السلسلة الأدبية الإبداعية، سلسلة الذهب والالماس التي تعتبر جزءًا من الابداعات العالمية المميزة.

في تفصيل الأسباب الآنفة اليها لإقبال الكتاب المبدعين على القراءة ومصاحبة الكتاب، ذلك الرفيق الذي لا نملّ منه ولا يملّ منّا، نقول:

* إن الكاتب المبدع إنّما يسعى من إدامته القراءة من أجل شحن مخزونه الثقافي، وقد قدّم العديد من الكتاب والشعراء نماذجَ حيةً على هذا، وأكتفي هنا بالإشارة إلى الشاعر الامريكي توماس ستيرنز  إليوت، فقد أعلى هذا الشاعر قيمة الثقافة، حتى بتنا نرى بعده، أنه لا يوجد شاعر أو كاتب مثقف يستحق هذه الصفة، دون أن يملأ خزّانه من الثقافة بأبعادها المختلفة، ابتداء من الكتب الدينية الخالدة انتهاءً بالأمهات الادبية الكبيرة التي أقرت لها واعترفت بها الإنسانية قاطبة، أما شاعرُنا العربي الخالد أبو الطيب المتنبي فقد ذهب إلى أن " خير جليس في الانام كتاب". هكذا نرى إلى أهمية الكتاب والثقافة في حياة الكاتب المبدع الجدير بهذه الصفة.

* يحلم كل كاتب أو شاعر مبدع بإضافة ولو ضئيلة إلى سابقيه، وقد رأى الكاتب العربي المصري توفيق الحكيم في العديد من مؤلفاته، خاصة "تحت شمس الفكر"، أن كلّ كاتب يضم في داخله كاتبًا آخر سابقًا له، ويوضح هذا قائلًا إن معظم الكتّاب إنما يتأثرون في بداياتهم الأولى بهذا الكاتب أو ذاك، بل إنهم قد يقومون بتتبّع خطاه وحتى تقليده، إلى أن تشتد اعوادهم فيستقلّون بشخوصهم الخاصة بهم، ويضيفون ولو قليلًا إلى ما سبق وأضافه سابقهم. يؤكد هذا أن التاريخ الادبي ما هو إلا حلقات متواصلة تضيف كل حلقة منها جديدًا إلى قديم. ويوضح هذا ما يذهب إليه جون كوين في كتابه الهام "بناء لغة الشعر"، وهو أن كلّ فترة أدبية تاريخية إنما تشهد موديلًا يحذو حذوه الكثيرون ويسيرن على هديه.

* كما هو واضح،  فإن كل مبدع حقيقي، إنما يقرأ الكتب سعيًا لوضع نفسه في الصورة الأدبية، لرقعة أدبية كلّما اتسعت زاد خيرها، وهو بهذا يقرإ الكتب للاطّلاع ومحاولة الإمساك باللحظة الإبداعية الهاربة، ولعلّنا لا نستطرد كثيرًا إذا ما قلنا في هذا السياق إن الكاتب القارئ الجاد، إنّما يرى ما وراء المُضمّن في الكتابة الأدبية الابداعية، وكأنما هو يتحسّس بذور الابداع العصيّة، تلك البذور التي لا تأتي صاحبها إلا يعد جهد ودأب، طالما أخبرتنا بهما وأطلعتنا على أسرارهما أو شيء منها، السيَر التي خلّفها عظماء المبدعين في شتى المجالات والانواع الثقافية، وهنا نشير بوضوح إلى تلك اللحظات الحاصة والفريدة التي أطلق عليها الكاتب النمساوي المبدع ستيفان تسفايج "  ساعات القدر"، وكرس لها كتابًا فريدًا يُعتبر درسًا في انتظار اللحظة المبدعة والتعامل معها تحقيقًا لحلم طال انتظاره.

الأسباب التي تدفع الكاتب لقراءة الكتب بنهم يكاد يشبه الجنون، كثيرة ومتعدّدة ولنا في مُصاحبة بُناة الإنسانية للكتاب، كما افصحت سيرهم، عبرة وأي عبرة.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم