أقلام ثقافية

شئ عن تولستوي وكورولينكو

كلاهما (تولستوي و كورولينكو) ولدا وعاشا وابدعا في الامبراطورية الروسية بالقرن التاسع عشر، وكلاهما توفيا في القرن العشرين، فتولستوي ولد عام 1828، وتوفي عام 1910، اما كورولينكو (الاصغر من تولستوي عمرا) فقد ولد عام 1853، وتوفي عام 1921 . كلاهما كانا علمين كبيرين من أعلام الادب الروسي بشكل خاص، والفكر الروسي عموما، وكلاهما لعبا دورا بارزا في مسيرة التاريخ الروسي واحداثه، لدرجة، قالوا عن تولستوي في اوساط المثقفين الروس، انه يكاد ان يكون القيصر الثاني في روسيا (وحتى الاقوى من القيصر الاول !!) من حيث قوة شخصيته وتأثيرها في اوساط المجتمع الروسي، ولدرجة، تم طرح فكرة ترشيح كورولينكو رئيسا للدولة الروسية السوفيتية الفتية آنذاك بعد انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917، ورغم انها كانت فكرة ترشيح ليس الا فقط، الا ان هذا الحدث بحد ذاته ليس بالقليل، فهو الكاتب الروسي الوحيد في التاريخ الروسي، الذي جرى الحديث عن ترشيحه لمثل هذا المنصب (رغم ان غوركي - كما يقال - كان يحلم ايضا بهذا المنصب، ولكن لا توجد وثائق تثبت هذا القول)، ولهذا يمتلك ترشيح كورولينكو لمثل هذا المنصب اهمية معنوية استثنائية كبيرة، ويعني ما يعنيه بلا شك، ويؤكّد المكانة الخاصة، التي كان يشغلها في المجتمع الروسي عندئذ.

يجب الاشارة قبل كل شئ، الى ان هذا الموضوع واسع جدا في مجال علم الادب المقارن، اذ ان هناك الكثير جدا من المصادر الروسية من مقالات وبحوث وحتى كتب باكملها، والتي تناولت العلاقات الفكرية المتناغمة – ان صحّ التعبير - بين كورولينكو وتولستوي، ويكفي – على سبيل المثال فقط - الحديث عن موقفهما الفكري المشترك ضد قانون حكم الاعدام، الذي كان سائدا في الامبراطورية الروسيّة، وكيف ان تولستوي كان معجبا جدا بمقالة كتبها كورولينكو حول الغاء هذا الحكم، واقترح تولستوي (في رسالة شخصية الى كورولينكو) ان يطبعوا من مقالته تلك (...ملايين النسخ ...!) وتوزيعها على نطاق واسع كي تصل هذه الافكار الى جميع افراد الشعب الروسي آنذاك، وهو اقتراح فريد من نوعه في تاريخ الفكر الروسي عموما، وفي تراث تولستوي بالذات خصوصا .

 لايمكن في سطور قليلة تناول موضوع المقارنة بين تولستوي وكورولينكو بكل ابعاده، لهذا، فاننا أضفنا الى عنوان مقالتنا (شئ عن ..) بمعنى الاشارة ليس الا الى بعض الافكار الاساسية حول الموضوع، اذ اننا سنشير فقط – وبايجاز طبعا – الى آراء كورولينكو حول تولستوي، لان كورولينكو أبقى لنا مجموعة من المقالات حول تولستوي، أما تولستوي نفسه، فلم يكتب مقالات حول الادباء الروس عموما، وكل آراء تولستوي المعروفة عن الادباء الروس (الذين سبقوه او كانوا معاصرين له) جاءت في مذكرات ومقالات ابنائه او اصدقائه اومعارفه، او انعكست – بشكل او بآخر - في رسائله الخاصة ودفاتر مذكراته وملاحظاته .

 كورولينكو كتب عدة مقالات حول تولستوي، وتشغل هذه الكتابات الان حيّزا مهما في نتاجات كورولينكو، وطبعا في تاريخ الادب الروسي بشكل عام . هذه المقالات موزعة في نتاجات كورولينكو الكاملة، الا ان احدى دور النشر السوفيتية جمعت و اصدرت تلك المقالات عام 1953 في كتيب خاص بعنوان (مقالات حول تولستوي)، وقد تكرر نشر هذا الكتيب عدة مرات حتى في القرن الحادي والعشرين، وهذا عمل مفيد جدا للباحثين اولا، ولكل القراء الذين يتابعون تفاصيل الادب الروسي وشعابه ثانيا، واعادة النشر هذه - دليل مادي واضح حول اهمية هذه المقالات ، فالصورة القلمية التي رسمها كورولينكو لتولستوي في مقالاته تلك تستحق التأمّل فعلا، اذ انها تحدد بعض الخصائص الفكرية لمؤلف (الحرب والسلم) من وجهة نظر كاتب روسي كبير مثل كورولينكو.

 هذه المقالات عموما لم تتناول اعمال تولستوي الادبية، ولكنها توقفت – وبتركيز – عند الافكار وتطوّرها عند تولستوي، فقد أطلق كورولينكو – مثلا - في احدى تلك المقالات تسمية لاهوتية على تولستوي، وهي (الحاج العظيم !) اي الحاج للاماكن المسيحية المقدسة في فلسطين، علما ان تولستوي لم يقم باي زيارة لتلك الاماكن، ولكن كورولينكو أراد بهذه التسمية ان يقول، ان تولستوي (الذي كان مغضوبا عليه من قبل الكنيسة الروسية كما هو معروف) هو الاقرب الى جوهر المسيحية فكريا لانه (يغرف !) افكارها من مصادرها الاساسية دون وساطة رجال الدين، وفي مقالة اخرى أشار كورولينكو الى انه التقى تولستوي ثلاث مرات، اللقاء الاول كان عام 1886، والثاني عام 1902، والثالث قبل وفاة تولستوي بثلاثة أشهر، وفي كل لقاء، كان يجد افكار تولستوي تتجدد وتتفاعل مع تجدد الحياة نفسها، وباختصار، فقد رسم كورولينكو لوحة (للمفكّر !) تولستوي .

موضوعة تولستوي وكورولينكو تصلح ان تكون اطروحة ماجستير في اقسام اللغة الروسية وآدابها في جامعات عالمنا العربي، اذ ان تلك الموضوعة جديدة ومبتكرة وترتبط بشكل او بآخر مع المشاكل المطروحة في مجتمعاتنا العربية، اضافة الى ان ترجمة كتيب كورولينكو (مقالات حول تولستوي) تصلح ان تكون مشروعا لدبلوم الترجمة الى العربية في تلك الاقسام العلمية (وليس فقط لمشاريع الدبلوم)، اذ ان هذا الكتاب – في حالة انجازه - سيكون اضافة نوعية الى المكتبة العربية. 

***

أ. د. ضياء نافع

في المثقف اليوم