أقلام ثقافية

لم يخلق العالم ليسعدك

ماذا تفعل يا صاحبي عندما تغلق الأبواب في وجهك؟ أتخلف كل شيء وراءك وتأخذ طريقك وحيدا إلى ذلك العالم، أم أنك ستبحث لنفسك عن مكان هادئ وسط ضوضاء الوجود المحيطة بك؟

أما أنا، يا صاحبي، فإني وجدت هذا الكون الفسيح ضيقا، وأن كائناته المختلفة لا تطيق وجودي بينها. دعني أطلعك على بعض الوقائع البسيطة التي دفعتني إلى السكون.

وأنا أستيقظ في الصباح الباكر، أقبل على صنبور الماء فلا أعثر فيه على قطرة ماء واحدة، وأفتح هاتفي فأجده فارغ البطارية، ثم أرغب في شحنه، إلا أن الكهرباء مقطوعة، والظلام يعم المكان.

أرتدي أطماري البالية على عجل، وأغادر باب "البراكة القصديرية، مخلفا ورائي ركاما من الأشياء التافهة، ولا أحمل معي إلا بقايا ذكريات متناثرة في ذاكرتي. وما إن أبلغ حارس الدراجات النارية، وأقبل على تشغيل دراجتي حتى أجدها معطلة، فأفتح خزان الوقود في حيرة وقلق، ثم أتفاجأ بأن الخزان فارغ، ومن ثم علي قطع مسافة طويلة مشيا، ولما أبلغ محطة الوقود أفاجأ بازدحام شديد، حتى يخيل لي أن بلدنا تفطر وتتغذى على الوقود، وأن كسرة خبز الفقير يغطسها في الوقود قبل أن يأخذها إلى فيه.. كثيرا ما استغربت هذه الحال، وسألت نفسي عن إصرار الفقراء على ابتياع الوقود رغم غلاء سعره.

وهكذا، أسلم نفسي طعما للانتظار القاتل، وما إن يحين دوري حتى أفاجأ بأني نسيت نقودي في البيت، فأترك دراجتي هناك، ثم أولي وجهي شطر البيت مشيا، آخذ الدراهم المعدودات، وأعود إلى محطة الوقود، فأبتاع نصف لتر منه، ثم أشغل دراجتي متوجها إلى مقر عملي.

وما إن بلغت مقر عملي حتى ارتأيت احتساء قهوة سوداء أطرد بها النوم من عيني الناعستين، وأجدد النشاط في عقلي الصدئ. أطلب قهوتي المعتادة من النادل، لكنه يصر على وضع قطعة سكر ونصف قطعة في قهوتي، فيكون مذاقها حلوا مقززا، يثير اشمئزازي، وتقف شعيرات رأسي سخطا واحتاجا، فأطلب منه إعداد قهوة أخرى، بيد أنه يقبل على مضض، ويحضرها لي في تبرم بادٍ.

أحتسي قهوتي وأقصد إلى عملي. ثم أدخل باب المؤسسة، وأتأبط كتبي ووثائقي في حزم شديد، وأخطو خطواتي المعتادة المتثاقلة، ثم أقصد قاعة الدرس، فألفي أقلامي مختفية. آخذ في البحث والتفتيش كمن يبحث عن إبرة في كثبان الرمل، فلا أجد إلا نظرات المتعلمين التي تتفحصني في عجب، وفي حيرة من سؤالي عن أقلامي المختفية، ومعرفة ما اضطربت له نفسي.

عندما لم أجد أقلامي، يا صاحبي، أيقنت أن هناك شخصا سرقها، فقلت لطلابي إن عنوان درسنا اليوم هو "أخذ ما ليس لك". ثم قلت لهم إن السرقة والسارقين أنواع ومراتب؛ قلت لهم إن هناك سارقين كبارا يختلسون أموال الناس في واضحة النهار، ويتم ذلك باسم القانون وبمباركة منه، وهناك من يسرقهم في الشوارع والأزمة باستعمال الأسلحة البيضاء، والترغيب والترهيب..إلخ. ومنهم من يسرق الناس في عوالم التواصل الافتراضية.

وفي الأخير، قلت لهم إن هؤلاء السارقين حتى وإن اختلفوا في طرق السرقة، فإنهم يتفقون في كونهم يأخذون أموال الآخرين وأشياءهم، وأنهم لا يتعلمون السرقة في شيخوختهم، وإنما يتعلمونها منذ نعومة أظافرهم، في البيت، في المدرسة، في الشارع...

هذه بعض الوقائع البسيطة التي جعلتني أدرأ لنفسي عالما خاصا بها، قوامه العزلة والابتعاد عن البشر، واتقاء شرورهم بأكثر من وسيلة؛ لأني علمت أن هذا العالم بمخلوقاته لم يخلق ليرضيني، ولا لكي يسعدني ويبهجني، وإنما علي أن أجد لنفسي مكانا هادئا فيه.

***

محمد الورداشي

في المثقف اليوم