أقلام ثقافية

يوم من أيام النجف

في العام 1990م كنت في زيارة لمدينة النجف الأشرف، وكالعادة كنت أمرُّ على مكتباتها لاطلع على ما فيها من معروضات، واختار ما يعجبني منها، فرأيت كتاباً صدر حديثاً بعنوان (يوم من أيام النجف) لمؤلفه الأديب النجفي مكي زبيبة رحمه الله، فكان من ضمن بل أهم ما اقتنيت في تلك الزيارة، والأول في القراءة بعد عودتي إلى البيت، فشدَّني بجمال أسلوبه الروائي وما احتواه من معلومات متنوعة في الأدب والتاريخ والجغرافية وغيرها، ومنذ ذلك اليوم علق في ذهني عنوان هذا الكتاب القيم واسم مؤلفه، ورأيته الأفضل في تلك السنين العجاف!!

في زيارتي التالية لمدينة النجف الأشرف حرصت على اقتناء عدد من نسخه وتقديمها هدية للأصدقاء المقربين من محبي القراءات والاهتمامات الأدبية، بل ولشدة إعجابي به حدثت الكثيرين عنه، وتمنيت قراءتهم له، وما زلت!!

الكتاب باختصار شديد يتحدث عن زيارة رجل لمدينة النجف الأشرف وقضائه يوماً كاملاً فيها، والتقائه بأحد أهلها ويدعى (الشيخ حمزة) الذي صار دليله في تلك الزيارة التي قسّم فصول مشاهداته لها حسب ساعات ذلك اليوم، أي إلى أربع وعشرين ساعة!!

وكانت البداية في الساعة العاشرة صباحاً حين وطأت قدماه أرض النجف الطاهرة للمرة الأول، فقال محدثاً نفسه: (هذه هي النجف التي تمنيت زيارتها منذ صغري، وحفظت عنها عشرات الحكايات، وكنت أرى الشرق متجسداً في عيون أهلي، وهم يتحدثون عن النجف، ما أسعدني وأنا أزور ابن عم الرسول، وسيف الله المسلول، المولود بمكة؛ داخل البيت الحرام في الثالث عشر من رجب، ولم يولد في البيت الحرام أحد سواه، ونقل عن أمه فاطمة بنت أسد، أنها لم تسجد لصنم وعلي في بطنها، لذلك يقال عند ذكره (كرّم الله وجهه) عن السجود لأي صنم، وأمه أول هاشمية ولدت هاشمياً ...).

وبعد سطور تفيض بالمحبة والإيمان، يتوقف لبيان زيارته: (في مدينة علي العلم والبلاغة سأمكث أربعاً وعشرين ساعة، يوماً من أيام الله، بدءاً من الساعة العاشرة والوقت ضحى، واتجهت نحو المرقد الشريف، وقلبي ينتض حبَّاً، وحين دخلت الروضة الحيدرية، من باب الساعة، استقبلني الصحن الكبير المتكون من طبقتين، زينت جدرانه بزخرفة الفسيفساء والسور القرآنية الكريمة، والأحاديث الشريفة، وقصيدة ابن أبي الحديد المعتزلي:

يا برق إنْ جئت الغري فقل له

أتراكَ تعلم مَن بأرضك مودعُ)

ويواصل الحديث عن تفاصيل مشاهداته في الصحن الحيدري، وأول لقاء له مع الشيخ حمزة الذي دعاه لضيافته، وكان تاريخ النجف الأشرف القديم وتاريخ المرقد من أوائل ما حدثه عنه.

لا أريد أن أذكر الكثير من الجميل الذي استوقفني في هذا الكتاب الجميل والماتع، إذ قرأت في كل فصل منه جديداً مدهشاً ومفيداً، ولكني أجد نفسي مرغماً للوقوف عند الفصل الأخير منه، أي في (الساعة التاسعة من اليوم الثاني) الذي خصصه الرائي للحديث عن الثقافة والأدب وشيوخها في المدينة، ومقالة الشيخ حمزة، حين ذكر أحدهم عن وجود (المئات المئات مثل هذا الشيخ لم تعرفهم الأضواء، وهم يعتقدون أن العالم كله في مكتباتهم ومؤلفاتهم المخطوطة).

وينقل عن هؤلاء الشيوخ مواقفَ من دون ذكر أسمائهم، ولكنهم معروفون للقارئ المتطلع والنبيه، كالشيخ الذي (يجلس متوركاً، وهو يقرأ في كتاب، الجميع يعرف فضله، لأنه مدون لسير العلماء والأدباء، يلبس ثوبا مطرزاً بالحبر، ويشد على ذراعه مسطرة خشبية لتعينه على الكتابة، وتخلصه من الرعشة التي في يده من الكبر، وكل المكتبات العامة والخاصة مفتوحة أمامه، وكثيراً ما واصل الليالي بالنهارات ناسخاً كتاباً مخطوطاً أو نادراً، وناسياً كل شيء إلا ذكر الله).

ويتحدث عن المكتبات المنتشرة في شوارع وأزقة المدينة، فيقول: (كانت أسواق باعة الكتب تصلنا، ونحن نسير اتجاهها، والشيخ حمزة يحدثني: (الكلمات في هذه المدينة تتبرعم وتورق صائد ودراسات، فكل مسالكها العامرة، تؤدي إلى أسواق العلم، وفي كل شارع تتربع مكتبة ومدرسة ومنتدى أدبي أو ثقافي)، إنها الربوة التي تلهم أبناءها عشق الإيقاع، دروبها المتفتحة للضوء تفوح برائحة اللغة، وسماؤها المرصعة بالشعراء تمطر قصائد، في أسواقها العامرة بالمكتبات تجوّل ابن بطوطة واشترى منها الكتب، والمتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بين ذكواتها البيض، وإن أحد المشايخ جمع اثني عشر مجلداً عن شعرائها خلال قرن واحد، ومات قبل أن يكمل المجلد الثالث عشر ويغطي الشعراء على مساحة الأعوام المئة).

ويضيف الرائي: (ولا تزال دائرة الشعر تكبر كل موسم، والنجف كل أيامها مواسم، فمع تسابيح الفجر تستمع إلى إنشاد القصائد تتصاعد شدواً في أفقها الرحب وهي معطرة بأنفاس الفجر، وكل ما في هذه المدينة ندي بأصالة ماضيها، ومتأجج بتوهج حاضرها، لغتها هي لغة الصحارى والسهول، وبلاغتها مستمدة من بلاغة أمير البلاغة علي بن أبي طالب، ولا يخلو بيت من بيوتها المتآلفة على محبة الكتب من مكتبة، فالمكتبة تؤسس مع الأسس الأولى للبناء، وعندهم البيت بلا مكتبة كالبيت بلا نافذة).

ويمرّ الحديث بمجالس الأدبية القائمة ليل نهار بتقفية الشعر ومن المشاركين فيها من يراهن على التقفية!! ويعود للكتاب ليؤكد على أهميته في المدينة، فيقول: (الكتاب أولاً وثانياً، وقد تستغني هذه المدينة عن الطعام شهوراً، ولكنها لا تستغني يوماً عن الكتاب).

ويذكر شيخاً جليلاً (أعياه المطلب في كتاب فعثر عليه صدفة، وقد عرضته امرأة للبيع، ولكن كيسه فارغ من النقود، فوقف في السوق بالقرب من المرأة، وأمسك الكتاب حرصاً عليه، وخلع عبابه وسط السوق، ودفعها للمنادي لببيعها فباعها بثمن بخس، وسلم للمرأة ثمن الكتاب، ومشى في السوق والطريق دون عباءة، وهي مشية لا تناسب أمثاله من رجالات الفضيلة، إلا أنه كان يمشي مزهوا بذلك الكتاب)!!

وانتهى ذلك اليوم بإعلان ساعة الروضة الحيدرية العاشرة صباحاً، فودع صاحبه الشيخ حمزة، وهو يهمس له: (ما أسعدني، وقد قضيت يوماً مباركاً في هذه المدينة المسكونة بالشعر والنقاء .. إنها النجف التي شرفها الله بعلي بن أبي طالب).

***

جواد عبد الكاظم محسن

في المثقف اليوم