أقلام ثقافية

البشير عبيد: لا مكان هنا لاصوات الأنين

هل بامكان الفتى أن ينام بعيدا عن نيران العاصفة ولا أحد يمنحه الهتاف الأنيق؟!.. لست وحيدا أعبر شوارع العتمة في هذا الطقس الشتوي البارد. خطاي أجنحة من الياسمين ويداي طيور من الحلم تتجه صوب سماوات الروح. هكذا وفي عزلة تامة عن ضجيج المدن وصخب المعارك المندلعة هنا وهناك، يتصفح الرجل الهارب من سراديب الهذيان، ورقات من كتاب المنفى، ولا ينسى أن يتذكر صور الأحبة والرفاق الذين صاروا سرابا.

كيف تسير خطاه باتجاه زهرات المعركة ولم تخنه ذاكرة الزمن الدامي. كم من الصبر والمعاناة والمكابدة يلزمه ليصل إلى حدائق النور وتنطلق به عربات الانتباه إلى فضاءات الدهشة. هاهي ذي الشوارع مقفرة والمدن صامتة والأزقة تبحث عن مشهد لعناق استثنائي. ليس الرحيل سوى عنوانا لانفتاح الكلمات الهاربة من أنياب الصقيع. هل بإمكان الرؤى أن تجعل الكائن البشري الخائف من سطوة اللحظة التاريخية الراهنة أن يقول للجلادين الباحثين عن أصوات الأنين :نحن هنا كأبهى ما يكون الانحناء لرائحة الوردة ومياه الينابيع. أجل وبمنتهى الجرأة والمشاكسة، يكتب الفتى أحلام الأجداد المهدورة ، ليس خوفا من شاحنات النسيان وسماسرة الحروب، إنما وضعا للنقاط على الحروف، لعل اللغة تبعا لذلك، تصير أكثر إشراقا وأقرب لأصوات الفجر. أجل وبمنتهى اللطف واللياقة، يطلب الفتى من شحاذي المدن العتيقة والأحياء الشعبية، أن يصيروا ملوك العصور القادمة!

هذا البحر مدرسة للرحيل

و الحبر طريق طويل لاندلاع الذهول..

هاهو ذا ماء النهريصب في قيعان الدجى

والأزقة الخلفية تبحث عن العشاق القدامى

* *

بالأمس صباحا أحدهم قال لي: كيف تسير وحيدا على رمال الاغتراب ولا أحد من الأهالي الطيبين البسطاء، يضع على كتفيك زهرات الانتماء"لوردة السراب" هكذا وبمحض إرادته يمضي سريعا إلى نوافذ الذهول، ربما يباغته صديق قديم بكتاب" مشاغب ". أسئلة المرحلة لم تعد تعني أي شيئ في سوق السماسرة المتاجرين بقيم الحداثة. أسئلة المرحلة هي الضوء المخيف للحصون التي لا بد أن تتحطم لتزداد ذهولا وصمتا وحيادا. أما من يتحدث عن انطونيو قرامشي وتنظيراته عن"المثقف العضوي" فليذهب إلى جحيم المكان وعزلة الزمان! ليس أشد إرباكا للذاكرة وإمعانا في ترحيل المعنى عن جدران اللغة سوى كتابة فصول مطولة من "أصوات الأنين" هنا وهناك وكأن الأنين لا معنى له وسط هذا الضجيج المتعالي في المدن والأزقة. ليس الخوف من ديمومة الحلم وتنامي فكرة التمرد في جسد الضحية.. الكائن المغترب والمربك للسماسرة والمتاجرين ببهاء اللغة، إنما المربك حقا هو أن يتمادى الجسد القابع تحت ضربات الجلاد في نفي وجود الجلاد ككائن وسيرورة، وهنا تصير أجساد" أصوات الأنين " هي الحاملة لأوجاع المكان والزمان، وتصير ضربات الجلاد هي الجسر الذي تعبره عربات الانتباه نحو مدن الدهشة وقرى البهاء الخارق.

* *

صامتا أمشي في الشوارع والأزقة والحارات المخيفة ولا أتذكر سوى وجهك المنير وعينيك السوداوين الواسعتين المحببتين إلى قلبي وروحي..صوتك الدافئ الخارج من قيعان المعاناة والمكابدة هو الذي أخرجني من دائرة الفراغ القاتل واليأس الذي كاد يأخذني إلى دوائر الاغتراب. دائما يتابعني صوتك كظلي.. كيف سيكون بإمكاني أن أنسى ضحكاتك السابحة في مياه السخرية من مفارقات هذا العالم الغريب العجيب..كيف سيكون بإمكاني أن أنسى إن سافرت غدا أو بعد غد إيمانك العميق بالحرية وانفلات صوت الكائن البشري من أنياب الحيف والاغتراب والارتباك. وحده عنادك الرشيق الذي يأخذني إلى نوافذ الحلم. فأنت تعاندنين الرداءة وتشاكسين مثلي تماما أعداء البهاء. كم كان جسدي المتعب يحتاج إلى صوتك الهادئ الدافئ الحامل بين طياته رحيل اللغة إلى جسد البهاء وانتصار الوردة على "ثقافة" السيف والدماء. كم كنت محتاجا إلى نظرة واحدة من عينيك الواسعتين الجميلتين لتأخذني خطاي إلى مدن السكينة والصمت العميق والهتافات الرشيقة من أجل الوصول إلى نوافذ الياسمين. كم كنت محتاجا إلى عناق طويل لأزداد إيمانا بأن الحياة جديرة بأن تعاش طالما أن هناك أحرار في هذا العالم الغارق في الغرابة. هل هي صدف الحياة جمعتنا أم إرادة الله؟ لست أدري، كل ما فهمته بعد كل الخيبات والطعنات التي انهالت على جسدي المتعب هو أنك الأنثى الاستثنائية التي لا تتكرر هنا وهناك كرقم في طابور كبير وطويل من البشر.أنت النور المتدفق من شرايين الحلم والينابيع الطالعة من أنهار الرؤى. لا أطلب سوى أن تأخذ جسدي هذا إلى ملكوت الدهشة والنبع الفريد، وأن نرحل سويا إلى مدن الشرق من أجل ترسيخ ثقافة الانحناء لرائحة الزهرة.

أنت البوصلة وسط المتاهة، والينبوع في المدن والقرى المقفرة.

***

البشير عبيد - تونس

شاعر وكاتب صحفي

………………….

- فصل من كتاب / مخطوط تحت عنوان: النهر والينابيع

 

في المثقف اليوم