أقلام ثقافية

أحمد الخميسي: حكايات مراسل إذاعة

كنت أعمل مراسلا لإذاعة الإمارات في موسكو عندما أعلنوا عن زيارة سيقوم بها الرئيس مبارك إلى موسكو في 15 مايو 1989، فكلمتني الإذاعة باهتمام ولهفة أن أحصل منه على تصريح خاص تنفرد به الإذاعة. بالسؤال تبين لي أن جميع المراسلين من دول العالم كافة سيقفون في المطار لاستقباله يوم وصوله خلف حاجز، وهذا هو المتاح لا أكثر. كان يوما مشمسا توجهت فيه منذ الصباح الباكر إلى المطار فوجدته يغص بالحراس والمراسلين والكاميرات. وقفت مع الجميع خلف حاجز أحمل جهاز تسجيل صوت صغير. بعد فترة انتظار هبط الرئيس ومر أمامنا يصافحنا مغمغما لكل منا بكلمتين وحيدتين: " أهلا وسهلا" ويواصل بعدهما سيره. سجلت العبارة وهرولت أزيح المراسلين لعلني ألتقط شيئا ما قد يقوله، لكنه لم يزد عن " أهلا وسهلا". سجلتها خمس مرات، واعتبرتها – لا أدري لماذا- " تصريحا خاصا" تنفرد به الإذاعة ! أسرعت بعد ذلك عائدا إلى البيت وشرعت في كتابة الرسالة لكي ألقيها في اتصال هاتفي، وأشرت إلى أن الرئيس المصري هبط إلى المطار وكان في استقباله فلان وفلان، وصرح سيادته لإذاعة الإمارات بقوله: " أهلا وسهلا"، وقبل أن يستقل سيارته أعاد علينا نفس التصريح بحذافيره! اتصلت بالإذاعة ووجدتهم متلهفين على رسالة تغطي حدثا عربيا سوفيتيا كبيرا. بدأت أتلو الرسالة وشعرت عن بعد بالذهول الذي حل على الاستديو أبو ظبي. واستفسر مني المسئول بدهشة وغيظ: " يا أستاذ.. هذا هو التصريح الذي اختص به إذاعتنا ؟". قلت بجدية: " نعم. أهلا وسهلا هذه تحتاج منكم فقط لمجرد توضيح.. فهي بمعنى أن الرئيس متفائل وأن المباحثات ستمضي على أفضل وجه! وللعلم هذا تصريح خاص بنا وحدنا، يمكن أن تسميه انفرادا". بعد انتهاء المكالمة فتحت الراديو ووجدتهم يذيعون الرسالة وجاء في مقدمتها: " تصريحات خاصة من الرئيس المصري لمراسلنا في موسكو"! لكنهم يا للأسف أذاعوا " أهلا وسهلا" مرة واحدة وحذفوا المرات الأربع الأخرى مع أن بعضها كان في منتهى الأهمية. بعد زيارة مبارك وتحديد في أغسطس 1991، كان جورباتشوف يستريح في القرم حين تم عزله من " لجنة الطواريء" التي ضمت الشيوعيين المتشددين، ووزيري الدفاع والداخلية. جرت المحاولة فجرا وأنا نائم بالطبع، ومبكرا في الصباح دق جرس الهاتف وإذا بها الإذاعة، يسألونني بلهوجة واهتمام بالغ: " أستاذ أحمد ما أخبار الانقلاب عندكم؟". قلت وأنا أفرك عيني: " أي انقلاب؟". قالوا: " على جورباتشوف". قلت مدهوشا: " متى حدث ذلك؟". صاحوا بغيظ: " فجر اليوم". صحت متعجبا: " ومن الذين قاموا بالانقلاب؟". انفجر الزميل من الطرف الآخر صارخا: " يا أستاذ نحن نتصل بك لتعطينا المعلومات، لا لكي نعطيك نحن المعلومات"!! غضبت من الاذاعة بسبب هذه الملاحظة، وبسبب ما سبقها من عدم تقدير لانفرادي الصحفي بتصريح خاص من الرئيس مبارك. ومع ذلك فقد نبهني العمل الاذاعي إلى حقيقة مهمة، ففي بداية عملي معهم سجلت لهم رسالة عن العلاقات الروسية الكويتية، وفي أثناء القاء الرسالة نطقت كلمة " الكويت" كما ننطقها في مصر، لكن زميلا من هناك استوقفني وقال لي: " الكويت.. بفتح الواو وليس بكسرها"، وتنبهت إلى حقيقة أن النطق السليم للكلمات هو المعيار اتقان اللغة حقا، فعكفت على كتب اللغة العربية بجوار دراستي للروسية، واكتشفت خلال ذلك أن اللغة الروسية أسهل مئة مرة من لغتي الأم التي أعشقها رغم صعوباتها.

***

د. أحمد الخميسي - قاص وكاتب صحفي مصري

 

في المثقف اليوم