أقلام ثقافية

أبو الخير الناصري: حاشية على قصة "كلينطي"

عندما ذهبت إلى القصر الكبير للمشاركة في تقديم مجموعتي القصصية "فحص مضاد" ضمن أنشطة المعرض الجهوي للكتاب، لم أكن حسمت فيما سأشارك به في الأمسية التي قُدّمت فيها مجموعتي ومجموعة "سليل شجر الصبار" لصديقي الأستاذ غريب الغرباوي.

بعد كلمات تقديمية لمسير الجلسة الأستاذ أنس اليوسفي، تحدث د.محمد نافع العشيري عن مجموعة "سليل شجر الصبار"، ثم تحدث ذ.محمد المؤدن عن مجموعتي "فحص مضاد"، وتحدث ذ. غريب عن مجموعته، وكان صوتان في داخلي يتصارعان.

كان أحد الصوتين يقول: تحدثْ عن بداية علاقتك بالسرد، ومحاولاتك القصصية أيام الدراسة بالثانوي، ومن شجعك على الكتابة، وبدايات النشر، وأهمية القصة القصيرة في حياتك...

وكان الصوت الثاني يردد في حزم: حَسْبُك أن تقرأ قصة من قصص مجموعتك، فخير ما يقدم به المبدع عمله أن يقرأ نموذجا أو مقطعا منه.

وحين قدّمني الصديق أنس إلى الحاضرين حاولت أن أبرم صلحا بين الصوتين في داخلي، فأشرت إشارات قليلة إلى صلتي بالقصة و بالسرد عامة منذ الطفولة. قلت إن هذه الصلة بدأت وأنا أصغي إلى والدي - رحمه الله - يحدثني عن رحلاته وأسفاره وتجاربه في الحياة، وذكرت ما تلا ذلك من قراءات عدَدْتُها ماء عذبا زلالا سقى بذرة القصة التي غرسها والدي في أعماقي، وأشرت إلى بعض من شجعني على المضي في كتابة القصة القصيرة، فذكرت منهم أستاذي عبد السلام الجباري - حفظه الله - وأستاذي محمد العمراني - رحمه الله - وكلاهما من القصر الكبير.

ثم انتقلت سريعا لقراءة نص "كليينطي" من مجموعتي "فحص مضاد"، ممهدا لذلك بالقول: "إن خير ما يقدم به كاتبُ القصة نفسَه أن يقرأ نصا من نصوصه".

لماذا اخترت "كليينطي" دون باقي قصص المجموعة؟

أهو شوق إلى تلك الأكلة الشعبية؟

أهو حنين إلى مرحلة الطفولة التي كنت أقبل فيها على أكل الكليينطي بنهم؟

ألِأنّي رأيت، من قبل، باعةً لها في القصر الكبير، فبحثت عن نص يضم مشتركا بين أصيلا والقصر؟

ربما لذلك كله، وربما وفاءً للراحل محمد البغوري رحمه الله، وقد جرى ذكره على لسان صديقي أنس في حديث قصير بيننا قبل انطلاق الأمسية، وهو الأديب الذي ذكرتُه في قصة "كليينطي"؟

لاحظت وأنا أقرأ القصة تفاعل بعض الحاضرين مع أجوائها، وتلقيت بفرح انطباعات عنها بعد نهاية اللقاء:

- قالت الأستاذة بشرى الأشهب: صدقتَ إذ قلتَ إن خير ما يقدم به القاص نفسه هو قراءة نماذج من أعماله، فقد جعلتنا بقراءتك للنص نفهمه جيدا، ونتمثل مضامينه، وشوقتنا لأكل الكليينطي في أصيلة.

- وقال الدكتور عبد الوهاب إيد لحاج في حديث معه ومع العزيز سيدي الطيب المحمدي: شوقتنا لأكل الكليينطي. وأشار إلى بائع له في أحد أحياء القصر الكبير، وشكل ذلك منطلقا لحديث مطول حول المشترك بين أصيلا والقصر الكبير.

-  وكتب الشاعر أنس الفيلالي معلقا على صور من الأمسية نشرتها على صفحتي "الفيسبوكية": كانت القصة الرائعة التي قدمتَها صورة عما تحفل به المجموعة القصصية من نصوص في غاية الجودة والمتعة.

- وانتقد صديقي الأستاذ إبراهيم طلحة لغة الحوار في بعض قصصي - ومنها قصة كليينطي - بعد ثناء على المجموعة كلها وتعبير عما راقه فيها قائلا: [تضم] مجموعتك قصصا ماتعة كُتبت بلغة سردية سلسة ذات طلاوة وحلاوة، وتعكس الواقع الاجتماعي، فالأدب الصادق ليس معزولا عن المجتمع، بل هو مرآته [...] ما يؤاخذ على صاحب كتاب "تصويبات لغوية في الفصحى والعامية" هو اعتماد الدارجة في بعض المقاطع الحوارية (اعمل أخاي) في قصة "كلنطي" أو (بالاك) في قصة "تقرير لم يكتمل"، مع أنك تمتلك قدرة لغوية محترمة لا أخال أنك ستجد معها صعوبة تُذكر للتعبير عن المعنى العامي بالفصحى.

بعد عبارات مودة وتقدير لصديقي إبراهيم طلحة كتبت في مناقشة رأيه: أما رأيك في استخدام العامية في لغة الحوار داخل بعض القصص، فإني أحترمه كل الاحترام، ولكني وجدتني مدفوعا لانتهاج ذلك في بعض القصص، خصوصا حينما يجري الكلام على لسان أناس ليسوا من المثقفين أو ليست لهم دراية بالفصحى (كبائع الكليينطي مثلا)، وأرى أن هذا النهج أقرب إلى الواقع، وأكثر انسجاما مع الواقعية، وأوقع في نفس المتلقي، وأدعى إلى تعميق تفاعله مع أجواء النصوص وعوالمها...

هذا، وقد اعتمدت الفصحى لغة للحوار في بعض القصص كما في قصة "بسمة شرطي" التي يجري فيها حوار بين شرطي ومثقف...".

ولعل رأيي هذا نال إعجاب الأستاذ إبراهيم، فلم يعقب بكلمة، واكتفى بإشارة إعجاب.

بعد عودتي وعزيزي الأستاذ محمد المؤدن إلى أصيلا، تجدد لقاؤنا بأحد مقاهي المدينة، بعد أيام، وتجاذبنا أطراف الحديث طويلا، ثم كان اللقاء بصديقنا يوسف بنجيد ونحن في طريق العودة من المقهى بعد منتصف الليل.

وبينما نحن مارون بأحد الأزقة إذا بنا نرى دكانا خاصا ببيع الكليينطي ما زالت أبوابه مفتوحة. دعوت الأصدقاء إلى تناول قليل من هذه الأكلة الشعبية. وقلت ليوسف ونحن ندنو من الدكان:

- "بغيتِ كليينطي في الخبز أو في الكاغيط؟"

أدرك أني أستحضر مقطعا من القصة، فرد ضاحكا:

- في الكاغيط.

وكانت لحظة جددت فيها الوصال بلذة استشعرتها وأنا آكل ما تيسر من هذا الطعام الشعبي بعد منتصف الليل.

ترى أكانت تلك لذة "الكليينطي"؟ أم لذة النص الذي كتبته عنه؟ أم لذة تلقي القصة من إخوان وأصدقاء في القصر الكبير؟...

لست أدري.

***

أبو الخير الناصري

في المثقف اليوم