أقلام ثقافية

حميد طولست: الإنسان لا يعيش حاضره منفصلاً عن ماضيه

تمثال "سركت" إلاهة الترحاب القابع بمطار القاهرة نموذجا.

تعتبر المَعالِم الأثريّةِ إرثاً وطنيّاً هامّاً وحسّاساً يميز بين الأمم، ويكشف الكثير من معالم عيشها وقيمها وطريقة حياتها وحياة الأقوام المُندَثِرَة، ويُعرف العالم على تاريخ حضاراتها، وكيف قامت وكيف ازدهرت، وكيف ولماذا انتهت؟ إلى جانب ما تلعبه كموروث تاريخي وحضاري -خلفه الأجداد للأجيال اللاحقة -من أدوار اجتماعية واقتصادية حيوية ومهمة في تكوين هوية المواطن، وتقريبه من تاريخ وطنه، و تعزيز قيمه الوطنية، وزيادة انتمائه لحضارته، وترسيخ اعتزازه بها، وتحسين ظروفه المعيشية عن طريق الجذب السياحي الذي يشكّل له ولمجتمعه مصدر دخل مهمّ وحيويّ وفعّال في تنشيط الحركة الاقتصاديّة بما يضَخّه بخزائن بلاده من أموال كثيرة وبالعملة الصعبة .

ربما يتساءل متسائل عن مناسبة هذا السرد الممل لكل هذه المسلمات العادية، وتلك المعلومات البسيطة التي يعرفها العادي والبادي، فأجيب بان الدافع لذلك هو اهتمام المسؤولين المصريين بآثار بلادهم وبكل ما يعكس حضارتهم الأصيلة ويوطد ربط ماضيها بحاضرهم والمستقبل، عملا بقاعدة أن :"الإنسان لا يعيش حاضره منفصلاً عن ماضيه" والمتمثل في ما يمكن لكل زائر لمصر ملاحظته من خلال الصور والمجسمات الأثرية الرائعة التي تزين بها ساحات وميادين جل المدن المصرية، خاصة مدينة القاهرة، كما هو حال مطارها الدولي،الذي ازدان بتمثال  لـ"سلكت" إلهة الخصوبة والطبيعة والحيوانات والطب والسحر والشفاء من اللسعات السامة في الديانة المصرية القديمة، الذي نصب بفضاء الباحة الفسيح لاستقبال الزوار ودعوتهم لرُؤية عظمة تراث الأقوام والحضاراتِ المُندَثِرَة، في البناء، والدّقّة في التّصميم، والأفكار الخلّاقَة التي تشخصها المَعالِم الأثريّةِ المهمّةِ والكثيرة والمتنوعة، والتي على رأسها الأهرامات و"أبو الهول"التي قيل فيهما ةعنهما، أن من يزر مصر ولم يعرج على أهراماتها العظيمة، ولم يقف عند قدم "أبو الهول"، فكأنه لم يزر مصر، وهو كمن يسافر إلى باريس ولا يشاهد أشهر معالمها، قوس النصر و"برج إيفل" و"نوتردام دي باري"، أو كذاك الذي يذهب إلى لندن ولا يرى جسرها العتيق London Bridge وساعتها العظيمة "بج بن" Big Ben"، أو كالذي يقصد روما للسياحة ولا يتوقف عند نافورتها الشهيرة "فونتانا دي تريفي"، ولا يأخذ صورا تذكارية ب "بياتزا ذي اسبانيا"، المعروف  بـ Spanish Steps،  ولا يزور كاتدرائيتها "سيستين".

فعلى من يتوق لزيارة القاهرة، والتجوال في ساحاتها، ومشاهدة متاحفها، وقصورها ومقاهيها، بكل أبعادها الثلاثية والرباعية، ويرغب في التعرف على أحيائها العتيقة، كـ"الحسين" و"السيدة زينب" و"العجوز" وخان الخليلي" -الذي لا ينازعه أيُ سوق آخر في شهرته وتاريخه ومعروضاته- و ميدان التحرير ومكتبة الحاج مدبولي الشهيرة ، فما عليه إلا أن يركب سيارة أجرة، تجوب بك شوارع القاهرة، وتغوص في أعماق معالمها التاريخية والحضارية الجميلة التي لا تكتمل زيارة مصر إلا  بزيارتها والوقوف على أعمال مفكريها ومثقفيها ومبدعيها وفنانيها .

التجربة الشيقة التي عشتها،قبل أكثر من عشر سنوات، أثناء زيارتي الأولى لعروس النيل وجوهرة أم الدنيا ومحروستها "القاهرة"، والتي لازلت أكررها عند كل زيارة،  حيث أنه كلما استقلت سيارة أجرة، إلا وجدتني أمام سائق بشخصية كاملة الاستعداد لخدمة زبائنه، والذي ما أن يُفتح بابُ للحديث  حتى ينطلق، في أدب عالم وخفة ظل شاعر، في وصف أدق تفاصيل مصره التي يعشقها حد الجنون، مفتخرا بسر أمومتها للدنيا، وكونها منطلق  رحلة بناء الحضارات البشرية، وبزوغ نور الله الحق على أرضها، وتجلي المولى عز وجل لنبيه وكليمه موسى بن عمران فيها، وأنها كانت بلاد أجمل الخلق يوسف بن يعقوب، وخليل الله إبراهيم، وملك الملوك أخناتون (أمنحوتب الرابع)، وملكة الحب كليوبترا .. وأنها كانت مربع ومنبع رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وطه حسين، وسعد زغلول، ونجيب محفوظ … ومن ربوعها انطلق الأدب والصحافة والنضال والثورات والحب و الموسيقى والفن والدين.

***

حميد طولست

في المثقف اليوم