أقلام ثقافية

سناء أبو شرار: روح تسكن المكان ومكان يسكن الروح

قد نضطر إلى الرحيل

وقد يُجبرنا أحدٌ ما على الرحيل

نغادر ولكن لا تغادرنا الأماكن

تحملها أرواحنا مخافة الفناء

نتجول في المدن، نسير بشوارعها، نحفظ الأسماء، نعرف مكان الأشجار، لا ننسى عطر الياسمين الذي يفوح من تلك الحديقة أو من ذلك المنزل، في أغلب أيام حياتنا نتجول في الشوارع والبيوت، في الأماكن وأيضاً في الأروح؛ فنحن نكتشف الآخرين كما نكتشف الأماكن، نشعر بأرواحهم كما نشعر بروح المكان، لذلك قد نحب من نقابل وقد لا نحبه، وقد نحب هذا المكان أو نكره مجرد الاقتراب منه.

ولكننا كما نتجول في المدن تتجول المدن بنا، حين نحب مدينة ما ونغادرها لا تفارقنا، يبقى ذلك الحنين الأبدي إليها، نريد أن نعود لزيارتها وربما للحياة بها، لا تفارقنا رائحة شوارعها ولا دفء بيوتها، ولا تفارقنا خضرة أشجارها أو ربما اتساع صحراءها، فالمدن تتجول بنا، لأننا لا ننساها ولا تنسانا؛ حتى حين تختفي تلك المدينة بسبب الحروب أو التطور العمراني أو لأي سبب، فهي لا تختفي من ذاكرتنا، نتأمل للحظات وربما لدقائق كل الأماكن التي أحببناها بها ويتملكنا حنين غريب لا يمكن شرحه ولا وصفه لأنه عميق بحجم عمق الروح، صامت ودفين، إنه حنين يجعل الروح ترحل بعيداً لأماكن غير مرئية وربما لم تعد موجودة ولكنها هناك في أعماقنا تقبع صامتة وراسخة ولا تغادر طوال حياتنا.

وهناك مدينة خاصة لدى كل منا حيث يجد نفسه، ويتآلف قلبه مع بيوتها وجدرانها ومع كل ما بها، مدينة في الروح يسكن إليها الجسد، وترتاح لها النفس، فلكل منا مدينة قابعة في الروح لا تغادر ولا تنهار ولا تعتريها عوامل التعرية لأنها محفوظة بعناية في الروح، وربما أكثر ما يحفظ التاريخ والأماكن والأحداث هي هذه الروح التي لا تنسى والتي تسجل الوجوه والأحداث والأسماء، هذا الأرشيف الأبدي والأزلي الذي لا ينسى ولا تتلاشي منه الذكريات هو المؤرخ الحقيقي لكل الأحداث، لذلك تحتفظ الروح بالمدن كأنها كنز دفين، لذلك وحين يجتاحنا الحنين أو الحزن تفتح خزانة الذكريات لتخفف من وطأة الشوق وتقول لنا لم أنسى واحتفظ بكل شيء، يكفي ان تُلقي نظرة سريعة لترى تلك المدينة التي تحب، لترى ذلك الوجه الذي أحبك، لترى الحياة التي كانت جميلة، لتعود لك الكلمات الدافئة، ربما احتضان أم قد ماتت، وربما ابتسامة حبيب قد غادر، وربما شوارع مدينة لم تنساها ولن تنساك.

إذا كان وجود الإنسان يقتصر على ما يرى فهو وجود ضيق ومحدود، فوجود الإنسان هو ما يرى وما لا يرى، هو ما يشعر به وما يتذكره، هو نداء الروح، وهمس النفس، هو حوار العقل وتأمل الروح، وهو أيضاً كل الذكريات التي مضت ولم يعد لها وجود، ولكن لا يزال لها وجود في النفس والعقل والقلب، وإلا فلماذا لا نفقد ذاكرة تلك الأشياء والأشخاص بمجرد أن نغادرهم أو يغادروننا؟ هذا لأن وجودنا فعلاً ليس ما نرى بل ما نشعر ونتذكر، كل ما مضى وكل ما نرغب به أن يحصل، كل الأيام الحزينة وكل اللحظات السعيدة. حين ندرك كم أن وجودنا شديد الثراء، عميق المعني، واسع الأفق سوف نشعر بمعنى آخر لوجودنا، وسوف ندرك عظمة الخالق التي أودعها بصدورنا وعقولنا، ومن أروع تلك الصور هو هذه المدينة التي تحيا في الروح، حيث لا يُجبرنا أحد على الرحيل وحيث نبقى دائماً وحيث نجد الدفء حين تغرق الحياة بالبرودة.

***

د.سناء أبو شرار

في المثقف اليوم