أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: نقد الوضعية المنطقية للميتافيزيقا

حاتم حميد محسنتؤكد الوضعية المنطقية ان المقولات الميتافيزيقية هي بلا معنى. سننظر هنا في بعض المقولات العادية التي نجدها دائما ذات معنى مثل:

1- برج ايفل في فرنسا

2- جورج واشنطن كان اول رئيس للولايات المتحدة

3- 1+1 = 2

4- كل العزاب غير متزوجين

بالمقابل، هنا بعض المقولات التي نستطيع القول انها بلا معنى، مثل:

1- برج ايفل فيه نكهة من لحم الخنزير المشوي لايمكن اكتشافها.

2- جورج واشنطن هو لغز الكون

3- كل العزاب متزوجين لعزاب بواسطة ملائكة دون معرفة اي شخص بذلك.

انظر الان لبعض المقولات الميتافيزيقية التي يطرحها الفلاسفة:

1- الله مشابه للطبيعة ككل

2- الناس لديهم القدرة ليقوموا بطريقة اخرى

3- الذهن المجرد هو محتوى وشكل حقيقته.

4- الاشياء الكونية المجردة توجد في واقع مستقل ذهنيا.

هل هذه الاسئلة الميتافيزيقية اكثر شبها بالمجموعة الاولى من المقولات ذات المعنى، او مثل المجموعة الثانية من المقولات التي بلا معنى؟ طبقا للمدرسة الفلسفية التي تسمى "الوضعية المنطقية"، المقولات الميتافيزيقية هي تشبه تلك التي بلا معنى. انها ليست زائفة، وانما هي بلا معنى لأنها ليس لها محتوى واقعي نستطيع الحكم بصحته او زيفه. لنأخذ، مثلا، المقولتان اعلاه حول برج ايفل. عندما اقول ان "برج ايفل في باريس"، هذا ادّعاء استطيع التثبت منه، مثل عبر السفر الى باريس والوقوف في مدخل البرج. لكن لا توجد هناك آلية استطيع بها التثبت من صحة او زيف المقولة "برج ايفل فيه نكهة لحم خنزير مشوي لايمكن اكتشافه". يمكن اختبار المذاق بوضع اللسان لكن كل هذا الاختبار لايثبت اي شيء طالما نكهة اللحم المزعوم لايمكن كشفها. وكذلك ايضا المقولات الميتافيزيقية مثل "الاشياء الكونية المجردة توجد في واقع مستقل ذهنيا". لا اختبار متخيل يمكنه اظهار صحة او زيف هذه المقولة.

ان مدرسة الوضعية المنطقية نشأت في بداية القرن العشرين كرد فعل للنظريات الميتافيزيقية غير المفهومة مثل نظريات هيجل، وهدفها المحدد هو ازالة كل الميتافيزيقا. فلاسفة مثل هيجل حسبما رأوا، وقعوا في فخ التفكير بان ادعاءاتهم الميتافيزيقية هي في الحقيقة حول شيء ما، بينما في الحقيقة هي فقط لغوية بلا معنى. احد اهم انصار هذا الموقف كان الفيلسوف البريطاني الفريد جولس اير (1910-1989). نقد الوضعية المنطقية للميتافيزيقا، كما يذكر، ليس كما في نقد كانط. لأنه، طبقا لكانط محدوديات تركيبتنا السايكولوجية هي التي تمنعنا من فهم الادعاءات الميتافيزيقية، والتي كما نعرف، ربما توجد حقا. طبقا لاير، نقد الوضعية المنطقية هو لغوي: المقولات الميتافيزيقية ذاتها هي بلا معنى طالما هي تفتقر للمحتوى الواقعي الذي نستطيع التثبت منه. الشيء المركزي في الموقف الوضعي المنطقي هو مبدأ التصديق والذي هو طريقة فعالة بحيث كل مقترح يجب ان يمر بها لكي تعتبر ذات معنى. اير يجسد هذا المبدأ هنا:

مبدأ التصديق يُفترض ان يقدم معيارا بواسطته يمكن تقرير ما اذا كانت الجملة صحيحة حرفيا. طريقة بسيطة لصياغته ستكون القول ان الجملة لها معنى حرفي فقط عندما يكون المقترح الذي تعبر عنه اما تحليلي او يمكن تصديقه تجريبيا. (اللغة، الحقيقة والمنطق، مقدمة).

الاختبار الذي يقدمه آير هو من شقين: المقولات ذات المعنى هي اما 1- صحيحة تحليليا، اي، صحيحة حسب التعريف، او 2- يمكن تصديقها تجريبيا، اي ان بعض التجربة الممكنة سوف اما تؤكدها او لاتؤكدها. مع هذا الشق الاخير، يقول اير، لكي تكون المقولة صادقة تجريبيا، انا غير مطلوب مني ان اقوم حقا بمهمة تصديقها. وانما، انا فقط احتاج ان يكون لدي اجراء تصديقي مقبول على الاقل . فمثلا، المقولة "الأزهار تنمو على المريخ" هي ذات معنى طالما نحن نستطيع نظريا بناء تلسكوب يمكنه مسح كامل الكوكب لكي يؤكد او لايؤكد هذه المقولة. ولكن انا لا احتاج في الحقيقة بناء تلسكوب لأجل تصديق المقولة. انظر مرة اخرى في القائمة اعلاه للمقولات ذات المعنى. كما نرى، "برج ايفل هو في باريس" هي ذو معنى طالما نحن نستطيع السفر الى هناك ونثبته تجريبيا. نحن نستطيع ايضا تجريبيا اثبات مقولات تاريخية مثل "جورج واشنطن كان اول رئيس للولايات المتحدة" عبر النظر الى الدليل التاريخي الذي يؤكد هذا الادعاء دون ادنى شك. المقولات "1+1=2" و "كل العزاب غير متزوجين" هي ذات معنى، ليس بسبب انها يتم اثباتها تجريبيا وانما لانها صحيحة بالتعريف. فمثلا، عندما اقول "الله مشابه للطبيعة ككل"، انا لا ادّعي ان كلمة "الله" بالتعريف تتضمن فكرة كونه مشابه للطبيعة ككل. ايضا، قولي ان "الله مشابه للطبيعة ككل" لايمكن اثباتها تجريبيا طالما انا لا استطيع اجراء مقابلة مع الله وأسأله حول هذا. حتى عندما استطيع الطيران الى حافة الكون وانظر اليه في مجمله، هذا لا يكشف ما اذا كان الذي انظر اليه هو الله. نحن نواجه مشاكل مشابهة في كل من الاقوال الميتافيزيقية الاخرى، لا وجود لتجربة ممكنة اما تؤكد تلك الاقوال او لاتؤكدها. الاقوال الميتافيزيقية كهذه، طبقا لـ آير لا تُحسب حتى كمقترحات، وانما هي فقط مقترحات زائفة pseudo-propositions، هي اولا تبدو يمكن تصديقها، ولكن يتبين فيما بعد ليست كذلك. هو يكتب " الجملة التي تعبر عنها ربما هامة عاطفيا (لمن يلفظها)، لكن ليست هامة حرفيا".

لعدة عقود، أثارت الوضعية المنطقية الخوف في قلوب الفلاسفة الذين خاطروا بكونهم اتُهموا في نطق ما لا معنى له عندما يضعون ادّعاءات ميتافيزيقية. لكن الوضعية المنطقية اصبحت تحت الهجوم بسبب وجود مشكلة متضمنة فيها، وهي ان مبدأ التصديق الوضعي المنطقي هو حالة من النفي الذاتي. لنر هنا المبدأ لديهم:

المقولة ذات معنى فقط عندما تكون اما صحيحة بالتعريف او تتأكد تجريبيا.

الآن يجب ان نسأل، هل هذا المبدأ نفسه صحيح حسب التعريف؟ كلا، ليس كذلك. هل هذا المبدأ نفسه يمكن إثباته تجريبيا؟ كلا. وهكذا، طبقا للنقاد، فان مبدأ التصديق يفشل في اختباره ولذلك هو بلا معنى، هو مجرد فرضية زائفة. الوضعيون المنطقيون يردّون ان مبدأ التصديق هو فقط توصية وليس ادّعاء واقعي حول العالم. لكن هذا الجواب لايساعد في الدفاع عن موقفهم طالما ان الميتافيزيقي لا يقبل مثل هذه التوصية التي سيكون لها من التأثير بحيث تجرد الميتافيزيقي نفسه من عمله؟ بينما مبدأ التصديق يفشل كنفي حاسم لكل الميتافيزيقا، التي لاتزال تتردد في اوساط الفلسفة. مع ان الميتافيزيقيين ليس بالضرورة مطلوب منهم الالتزام بمبدأ التصديق. لايزال هناك شك مستمر انهم ينطقون كلاما لامعنى له عند عمل ادعاءات ميتافيزيقية. مرة اخرى، هذه أخبار سيئة للميتافيزيقيين التقليديين.

 

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم