أقلام فكرية

سامي عبد العال: الشرق والغرب.. الاختلاف الأنطولوجي (2)

سامي عبد العاللعلَّ ما يحكُّم الرُؤى الفلسفية (شرقاً وغرباً) هو الاختلاف لا الاتفاق. وليس ثمة داعٍ لجمعهما في سلةٍ واحدةٍ، بل إنَّ الاختلاف الفلسفي يمثل القاعدة الأساسية التي لا قاعدة بعدها مهما حاول البعضُ إيجاد التقارب بين الطرفين. إنَّ المجتمعات الإنسانية تتغاير جذرياً فيما تراه من صور العالم والأشياء والحقائق. وهذا أمر بديهي يصعُب إدماجه تحت مقولات عامة دون احتمالات أخرى، ويمثل نقطة قوية في نقد فكرة (الانطولوجيا المشتركة co-ontology) بين الشرق والغرب.

هنا ليست القضيةُ ما إذا كان الغرب عقلانياً والشرق روحانياً، ثم نحاول الجمع بينهما مثلما ذهب أنصارُ الأصالة والمعاصرة إلى اقتفاء هذا الأثر، ولكن القضية هي التعدد والاختلافات في الجانب العقلاني وكذلك عبر الجانب الروحاني مهما يكن عاماً، بما لا يهيمن على هذه التقاطعات الجزئية تحت مفاهيم الأنطولوجيا. إنَّ التعدد نفسه والاختلاف نفسه يوجدان في كافة الجوانب الإنسانية، بما لا ينفي بعض عمليات الإندماج، وأنهما طريقان مختلفان متلازمان في الحياة. بهذا المعنى فإنَّ التعدد والاختلاف لا ينفيان- نظرياً- وجود العقلاني في  الجانب الروحاني والروحاني ضمن الجانب العقلاني، بحكم تكوين الأنطولوجيا ثقافياً في الشرق والغرب وليس لاهوتياً فقط.

اختلافٌ لا اتفاق

إنَّ الاختلاف بين الشرق والغرب ليس صورياً محضاً، لكنه بنيوي وجذري، حتى داخل كل طرفٍ على حدةٍ. فلِمَ تبذل الجهود سدى للجمع بينهما رغم التراكم التاريخي للاختلاف؟ هنا تبدو نظرة القائلين بالتقارب الأنطولوجي كأن الموضوع مدعوم بقيمة معينة (أخلاقية أو أخروية أو إنسانية أو لاهوتية) نتيجة محاولة العثور على صيغة للتفاهم بين الغرب والشرق، بعبارة  واضحة تعتبر تلك المحاولة من ضمن قضايا المستقبل بين الحضارتين.

فلتكن كذلك في مستقبلها المنظور أو غير المنظور، ولكن ليس بهذا الاتفاق الذي لا يحافظ على سمات الإنسان هنا أو هناك، إذا أجيز هذا التقسيم اللاهوتي أصلاً. ولذلك جاءت محاولات (الرأي الأنطولوجي) في مجرى فهم فلسفي معين، سوى أنه يتفق مع منطلقاته التي تحدثت عنها في التأسيس السابق. وما هذا الرأي في كليته سوى محاولة إظهار الأسس التقليدية للفكر الغربي والشرقي وسعيهما نحو الوحدة المفترضة على المستوى الفلسفي رغم أصالة الفكر لكل منهما.

نفهم من هذا الرأي أنَّ هناك جذوراً تقليدية للفكر الغربي والشرقي، وأنَّ هناك سعياً للوحدة التامة بينهما، ومع ذلك هناك أصالة يتمتعان بها كلٌّ على حدةٍ. وهذه فكرة غريبة ومتناقضة جنباً إلى جنبٍ. لأنَّ الجذور التقليدية لم تترسخ ابتداءً إلاَّ بفضل الاختلاف. فكلما وقع الاختلاف على مستوى (الأنطولوجيات المتعددة)، كانت  هناك إمكانية لامتداد هذه الجذور والأسس، لدرجة أنها تتحدد في قلب الاختلاف. وبعيد عن الاحتمال أن تتفق أية جذور فلسفية وفكرية اتفاقاً تاماً كما يقال، لأن الاتفاق شيء آخر يمثل تكراراً تقليدياً، واقصاءً لأشياء أخرى!!

الغريب أنْ يكون هناك "سعي" – كما يؤيد أصحاب الرأي- من كلا الطرفين الشرق والغرب للوحدة التامة!، إذن السؤال المنطقي عندئذ: لماذا لم يلتقيا ابتداءً منذ النشأة طالما أن هناك اتفاقاً؟ وما الجديد الذي يمكن أن يقدمه الرأي الأنطولوجي، إذا كان الاستقلال محتوماً بالفشل؟ كما أننا لم نر في حقبة من الحقب هذه "الوحدة التامة" بين الشرق والغرب وأين صيغة الوحدة بين الكيانين؟ لأن صيغ الاختلافات تثبت عدم انطواء الشرق والغرب تحت مظلة واحدةٍ إن وجدت.

إنَّ إدراك ماهية الإنسان حضارياً لاتتم إلاَّ بإدراك اختلافه عن غيره، واختلافه عن موضوعات الكون وكائناته. فلو تطابَق الذات والموضوع معرفياً أو انطولوجياً، فهذا هو العدم أو الموت. حتى أن الاختلاف لا يتوقف لدى هذا الحد، بل الإنسان كمحصلة من تاريخ (الوعي و اللاوعي) يختلف عن ذاته باستمرار، وعن إمكانياته. وإذا حدث تماثل، لأصبح الإنسان مشروعاً للفشل، وهذا الاختلاف هو الشرط المبدئي للفعل الإنساني ولممارسة حريته. فلئن كان تاريخ الإنسان مكوناً من خيالات وحقائق وتوهمات بلغة "فرويد"، فما بالنا بالمجتمعات الشرقية أو الغربية في تراثها المركب والمعقد على الأصالة، والذي هو التحقق والممارسة لتلك التوهمات بدرجات متفاوتة.

تنتمي هواجسُ التماثل بين المجتمعات تحت غطاءات مختلفة (لاهوتية أو إنسانية أو حقوقية) إلى خيال اجتماعي معين مدفوع في باطنه بإمكانية احتواء الآخر لمواكبته، أو عملية مراوغة من قبل الآخر الذي يسعى للهيمنة والسيطرة على الأضعف، وليس إلى التماثل أو التعادل الأنطولوجي بين الطرفيين. وفوق ذلك تعد تلك التماثلات استحالة غير قابلة للتحقق، فحينما يُراد الوصول إلى صيغة اتفاقية (على خلفية الأنطولوجيا) لتأكيد دلالات معينة، عندئذ تبوء بالإخفاق. لأنها تخرج من إمكانية الاختلاف التاريخي، وبالتالي كلما حاولنا البحث عن مبررات للاتفاق، أدّى بنا ذلك إلى تكييف لما هو مشترك افتراضاً، ولا يزيد الموضوع إلا تناقضاً وصراعاً.

أقول من المستحيل فِعلُ ذلك الاتفاق بين الشرق والغرب لسبب آخر أيضاً. مؤداه أن الثقافة لها طابع احتوائي، أي أن الشرق (بمفرداته وقواه الرمزية) تبعاً لثقافته يحاول الهيمنة على الغرب، أو على الأقل يسعى إلى معرفة صورته لديه، ويجعله موضوعاً للاحتواء(1)، في الوقت نفسه الذي يسعى فيه الغرب للهيمنة على الشرق. ذلك أن صورة الذات تتكون بتلك الطريقة في كل المجتمعات بلا استثناء، والوجود مقام على الاختلاف، وليس على التعادل الصوري بين عناصره، ويتمّ هذا دون ضمانات أنطولوجية كما يشير الرأي، فانعدامها هو الضمان الحقيقي، لأن الاختلاف يؤدى إلى إبداع ضمانات لكل مجتمع، وبالتالي يأتي بالجديد.

كما أنَّ "الضمانات الأنطولوجية" المطروحة مصطلح لا يبتعد كثيراً عن خلفياته الدينية، بالقدر ذاته يتم التأكيد على فكرة العودة إلى الخصوصيات الثقافية والتاريخية،  أي أنه فيما يواصل الرأي: يصعب الانخراط إبداعياً بشكل واضح في حوار مثمر وعقلاني مفتوح مع (الآخر) الحقيقي وليس (المختلف) إلاَّ بعد استيعاب التاريخ الذاتي للقائمين بالحوار، وعليه يجب العودة إلى الذات. هذا شرط خاص يقضي ابتداءً على المشروط (الحوار المثمر)، لأنَّ الحوار الحقيقي هو الخروج من أطر الذات، أو فهم الآخر عبر الذات قبل فهمه مع الطرف المقابل. ومن المؤكد أنه لا توجد عودة إلى الذات دون مرور على الآخر ابتداءً وانتهاءً. إذ أننا نعرف أنفسنا عادةً من خلال الآخرين، فهم الذين يحققون داخلنا الاختلاف بين إمكانيةٍ وإمكانيةٍ أخرى، بل ويعرفوننا على الفجوة بين الإمكانيتين، ومن ثمَّ  نتعارف فيما بيننا في صورة تقابل وتنوع، وليس في شكل تماثل، بل إن شرط إدراك الذات هو إدراك الآخرين وليس العكس.

ولكن كيف نعود إلى الذات، يقول القرآن الكريم: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" (سورة المائدة، الآية 105)، إذن كل فعل عودة إلى هو فعل ديني، إيماني، إنه موضوع أمر من قبل سلطة عُليا مقدسة. ومن يمتلك حق العودة إلى الذات؟ هو قرار مستحيل وصعب جداً، لدرجة أن الله في القرآن هو الذي ابتدره بأمر المؤمنين إليه. ومع ذلك، فإنَّ هذا الفعل الذاتي الخاص لم يكن خالصاً من تلوثه بالآخر، من اختلافه في نفس اللحظة التي ظلَّ فيها متوحداً كما يبدو، لذلك حرصت الآية على ذكر الضلال والهدى، الأنا (أنفسكم) والآخر (من ضل)، والعلاقة بينهما ليست اتفاقاً بل عدم الضرر، وعدم الضرر يعنى الاتقاء منه مع إمكانية وقوعه، وإلاَّ لما كان الأمر إلهياً ومستمراً والامتثال بشرياً ومتقطعاً، ولما سُمي الهدى هدىً واعتبر الضلال ضلالاً.

إذن طيف الآخر يقتحمني في كل لحظةٍ، هو يسكنني ليس من وقت إلى آخر فقط، إنما يفعل ذلك في كل وقت، بل مع الهدى يبقى الضرر قائماً معطياً إياه هويته وتحوله، إذ طالما أن الأمر الإلهي آمر وقائم، فإنه يبقى محتملاً. ولذلك يمكن على مستوى السلوكيات والأفعال بقاء الفجوة بين الفعل والأمر، بين الواقع وما ينبغي أن يقع، وإن كان إلهياً، لأن كل أمر يحتمل الامتثال له أو الهروب منه، بدليل تجدد المعنى في النص الديني واحتياج المؤمن إلى قراءته زمانياً.

لعلَّ الآية من هنا تحمل دعوة تبلغ درجة الدفع الذاتي من واقع الإيمان للتفتيش المتواصل في النفس (..عليكم أنفسكم..) وللتنقيب الذي لا يهدأ في بناء الأنا ومعرفة القواعد التي تجعله ممتنعا على الضلال، وأنه لا يمكن تجاوز هذا التسليط لكل القوى الفاحصة تجاه الأنا كموضوع مشروط بالضلال. فهل يصل الإنسان بأحادية خالصة إلى الهدى؟ ومادام لا يضره من ضل إذا اهتدى، فلم لم يصل إليه؟ ومادام ليس متاحاً هذا الوصول إلى الغاية ، فـ "عليكم أنفسكم " أبداً كما يستنبط من الآية القرآنية، لسبب مؤداة، أن هناك دوما من ضل!! لذلك فعل الشرط (.. إذا اهتديتم) لاحق على جواب الشرط (لا يضركم..)، نظراً لامتناع الجواب فيمتنع الفعل، فيبقى الاختلاف محتدماً.

ليس ذلك تبريراً دينياً تمشياً مع الآية المذكورة، لكن قُصد به التشديد على أن الاختلاف موجود حتى داخل الأنا بالمعنى الديني (النفس التي اهتدت، أي تطابقت مع إيمانها المقدس، وهي لن تستطيع فعل ذلك). وبالتالي لابد أنْ تبقى على شفي الحذر من الضلال، وأن يبقى الأمر الإلهي سارياً ومتكرراً، كذلك وهي على شفي الحذر تبقى هواجس الضلال داخلها، أي لا تنفصل عنه، ولا ينفصل عنها.

تأسيس آخر

من جهة أخرى، يرى أصحاب هذا الرأي الأنطولوجي ضرورة العثور على" قيم إنسانية شاملة وأساسية للتفاهم المفيد والتعاون المثمر وتلعب الفلسفة دوراً رئيسياً في حل مثل هذه المسائل الإنسانية العامة ". لكن ذلك يستدعي الاستفهام: أين هذه القيم؟ إن تلك القيم الشاملة سواء أكانت غريبة أو شرقية ليست خالصة، ولا مؤدية للتفاهم (تحت ضغط الاتفاق)، لأنها انعكاس صراعي للثقافة في تفاعلاتها الداخلية، وتشكيل اختلافي كنتاج للخيال الاجتماعي- الحضاري الذي يمسه الآخر، ويراقبه، ويقطن في تفاصيله دون مبارحة. فكل مجتمع، تاريخياً، وعبر هيمناته الخيالية يرى في حضارته، وطباقه الثقافية ما لا يمكن أن يناله الآخرون (البرابرة بلغة "أفلاطون"، أو الغرباء، أو الدخلاء، أو المهاجرون أو حتى الضيوف بلغة أكثر حداثة)، والخيال هنا له صفة الضروري والمؤثر، بل هو الذي يشكل الواقعي ويتجادل معه باستمرار، كما يقول "بودريار"(2).

أمَّا فكرة " الإنسانية الشاملة "، فلابد من تخطيطها بشكلٍّ عيني قابل للاختلاف في كل مجتمع، وإلّا لاستحالت في ذاتها، فاللقطة السينمائية التي تنقل البؤسَ مثلاً عبارة عن معالجة للجزئي- الصراعي، غير أنَّ إيحاءاتها الكلية تظل مرتبطة بشيء مختلفٍ، شيء لا يمكن أنْ ينطبق على الجزئي وإنْ استند إليه، ولا على الكلى وإنْ تفلت منه وفشل في الإمساك به، لكننا نعرفه، نلمسه بالتعاطف مع  التاريخي- الأبدي، مع تجارب البؤس التي عايشناها وغرقنا ومازلنا نغرق في رواسبها المتحركة والمتفاعلة، ومع إمكانية تكرارها المتواصل، أي نشعر بذلك مع الإنسان الذي يسكننا كمشاهدين، ويلح على المقارنة والاختلاف بشكل متواتر.

بدليل أننا مع هذا الإحساس مازلنا مشاهدين ومازال البؤس جاريا كوقائع، غير أنَّ الاختلاف يأخذ (أي يعمل وينسق) آلية التبادل بين حدث المشاهدة وحدث الفعل المشاهد بوضع هذا مكان ذاك، لأننا قد لا نشعر بالبؤس ما لم يكن لـ"دينا" ردُ فعلٍّ يقول بأننا لو كنا في هذا الموقف، لتصرفنا بشكل مغايرٍ، وما لم نكن مختلفين، ما كان لنا أنْ نعانى البؤس ونجربه كلياً ونختلف به عن غيرنا، بالطبع نمتلك ثمتئذ إمكانية التجريب، والانهماك فيه كمطلق للأنا خيالياً، بينما لا نمتلك الاتفاق فعلياً.

وكذلك فإن صيغة " اللا انقسام واللا اندماج " بين الحضارات والكيانات الثقافية الكبرى كالشرق والغرب صيغة ملائمة للتعايش والتجاور وليس للاتفاق مهما يكن. ولم تُنتج بشكل خصب أثراً إنسانياً في هذه الفكرة، لأنه الرأي الذي سرعان ما حسم الاختلاف انطولوجياً- لاهوتياً. إنَّ الأساس الأنطولوجي (كرؤى) للاتفاق لا يُظهر الفوارق بين الشرق والغرب التي سرعان ما ترتد بالرؤى الأنطولوجية ذاتها إلى مذاهب وديانات وعقائد، وبالتالي سيترسخ الصراع وسيُعاد تشغيله من جديد.

ومن ثمَّ، كانت نقطة انطلاق هذا الرأي بالاشارة إلى مفهوم " التقاليد الوجودية " في الثقافتين الشرقية والغربية نقطةً مهمةً. وحتى عندما أكد على " ارتباط الأنثروبولوجيا بالأنطولوجيا"، فقد وضع يده على بداية مبشرة، لأنها البداية التي لم تكن لتؤدى إلى اللاهوت السالب، والتي لم تكن لتؤكد " مطلّقة " الاتفاق بين الطرفين وضرورة تحققه. وياحبذا لو كان عنوان التقارب بين الشرق والغرب نوعاً من الحوار الأنطولوجي، أو بين علاقة " الشرق- الغرب،  من جهة المدخل الأنثروبولوجي  للأنطولوجيا"، أو معادلة "الشرق- الغرب، أنثروبولوجيا فلسفية ". لذلك لم تكن لتجدي المقارنات الوجودية الطولية تاريخياً بين مفاهيم الأنطولوجيا، أي سرد أحداث أنطولوجية غربية متوالية، ثم التعقيب بأخرى شرقية على هيئة اقتباسات من مفكرين شرقيين أكثر حداثة و من المتصوفة وأصحاب الحكمة الدينية.

إذن كان يجب كتابة تاريخ لهذه الأنطولوجيا شرقياً وغربياً، التاريخ الذي يكشف التناقض في الرؤى والاختلاف في المرجعيات. ففي كل مرة تكتب فيها محاولات الاتفاق لابد أن تنحرف إلى الاختلاف مرة أخرى، وأنَّ فهم الاختلاف الثقافي والأنثروبولوجي داخل الأنطولوجي والعكس، هو الذي يعمق إمكانية التعايش والحوار، فكل (الأنطولوجيات) هي صيغ فلسفية مستقطرة للصراع. وإذا حاولنا اقتناصها بأفكارٍ عامة، فُسرعان ما ستفرَّغ من محتواها الحقيقي. وتبدو الفلسفة إذن غارقة في الوهم، الوهم من واقع الخيال الاجتماعي- الثقافي الذي تقننه وتعطيه صيغته المنطقية والأنطولوجية. إنَّ الفلسفة، كما يقال ظاهرة للنظام الاجتماعي الثقافي وكحدثٍ للكينونة التاريخية والمرتبطة بمزاج وإرادة الناس الذين يحددان قرارات وأعمال البشرية.

ولا أدل على هذا من أنَّ الأنطولوجيا ذاتها لابد أن تُقام على الأبستمولوجيا. ففي كل المذاهب الفلسفية، لا بد لأي تنظير أنطولوجي أنْ يسبقه تحديد لأدوات وطبيعة المعرفة، أي يسبقه كتابة طريقة التفكير والتصور وتخطيط آفاق العقل، أي يجب أن تكون هناك  نظرية في الإنسان والتاريخ واللغة والرموز، وليس في اللاهوت والوجود. حتى وإنْ اندمجت تلك المفردات في إطار ثقافي واحدٍ، فهذا شيء آخر.

 

د. سامي عبد العال

..........................

1-  يعبر حسن حنفي عن ذلك أبلغ تعبير، حين ذكرَ أسباب هيمنة الغرب على الصورة المعرفية للشرق ضمن ما يُسمى الاستشراق، منتهياً إلى أنه قد آن الأوان لكي نجعل الغرب موضوعاً للدراسة، وأن نخضعه للأدوات المعرفية، مثلما أخضعنا تاريخياً لبحوثه ودراساته (حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنية للطباعة والنشر، القاهرة، 1995).

لكن هل يكفي لإتمام الاستغراب اللجوء إلى التاريخ للتدليل على القدرات التي نتمتع بها إزاء الغرب المسيطر؟ إن ما يحاول أن يبلغنا إياه هذا العمل: أنه لابد من وجود اختلافات تبدو ضرورية بين الشرق والغرب ولو في صور حضارية مسروقة، بها أحداث وذكريات ثمينة، لامحالة من استرجاعها ثانية بشكل معكوس.

2- لدى " بودريار" يشكل الخيال الواقع ويشارك في صنع أحداثه، لأنه مخزون الصور المكبوتة والعنيفة والتخطيطات العملية للأحداث، لذلك رأي في حرب الخليج أنها لم تقع إلا كقصة من قصص الخيال العلمي، وكاستباق للحدث في شكل سيناريو متخيل سيتحقق لامحالة كما هو الأمر مع "بورخيس" في نصوصه عن الثقافات التي لم توجد بعد (جان بودريار، الفكر الجذري، أطروحة موت الواقع، ترجمة منير الحجوجي وأحمد القصوار، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2006، ص44).

 

في المثقف اليوم