أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: الفلسفة كطريقة في الحياة

حاتم حميد محسن"من العبث كلام الفيلسوف الذي لا يشفي أي معاناة للانسان" ابيقور.

الفلسفة، كما تُمارس اليوم، هي مجردة، ونظرية ومنفصلة عن الحياة، تماما كأي موضوع أكاديمي بين الموضوعات الاخرى. في العالم اليوناني – الروماني، كانت الفلسفة شيئا ما مختلف جدا، كما يرى الفيلسوف الفرنسي بيير هادوت pierre Hadot. الفلسفة كانت طريقة في الحياة. ليست فقط كموضوع للدراسة، وانما الفلسفة اعتُبرت فنا للعيش، ممارسة تهدف لتخفيف معاناة الانسان وتشكيل وإعادة صياغة الذات طبقا لمُثل الحكمة، "هذا درس الفلسفة القديمة: دعوة لكل كائن بشري لتحويل ذاته. الفلسفة هي تحوّل، تحوّل في طريقة المرء في الوجود والعيش، وسعي للحكمة". ان ممارسة ما يسميه هادوت "التمارين الروحية" هي التي تؤدي الى التحول الذاتي وتجعل الفلسفة طريقة في الحياة.

المدارس القديمة

بالنسبة لليونان والرومان، دراسة الفلسفة تعني إختيار مدرسة وتبنّي طريقتها في الحياة. انها استلزمت ما يسمى اليوم التحول الديني. "المدرسة الفلسفية .. تتطلب من الفرد تغيير كلي في اسلوب الحياة، تحولا في وجود المرء الكلي، و ... رغبة ليكون ويعيش في طريقة معينة". كل مدرسة لها مجموعة خاصة من التمارين الروحية التي تتطابق مع مُثلها في الحكمة. ان التمارين التي يمارسها الطالب كانت تلك التي لانزال نربطها بالدراسة الاكاديمية، اي، الكتابة، البحث، والحوار. لكن الطلاب ايضا استخدموا تمارينا يمكننا تصنيفها ضمن المنظمات الدينية او الروحية، مثل تمارين السيطرة على الذات، علاجات لتهدئة العواطف، الاختبار الذاتي، التأمل وتذكّر مبادئ المدرسة. (يجب ملاحظة ان صورة هادوت للفلسفة القديمة هي وصف دقيق للفلسفة كما مورست بواسطة سقراط والمدارس الهيليستينية - الرواقية والايبيقورية بدلا من مدارس افلاطون وارسطو).

فقدان التمارين الروحية

في عام 529 ميلادي أغلق الامبراطور المسيحي جستنيان اكاديمية اثينا، والمدرسة الافلاطونية الجديدة، ووضع حدا لتعليم الفلسفة الكلاسيكية في الغرب. الآن المسيحية وحدها اعتُبرت كطريقة في الحياة والفلسفة اختُزلت لتكون خادما للثيولوجي، توفر لغة فلسفية ومفاهيم للدفاع عن دوغما الكنيسة. التمارين الروحية للفلسفة اصبحت جزءاً من الروحية المسيحية. هادوت يجادل بان تمارين القس اجناطيوس في لويولا ليست الا تبنّي مسيحي لهذه الممارسات القديمة. بدلا من الحكمة، اصبح تقليد السيد المسيح المثل الذي صاغ الممارسة الروحية. في كلمات بول "انا سوف احطم حكمة الحكماء .. اليونانيون يبحثون عن الحكمة ، لكننا نعظ بالمسيح المصلوب". بالنسبة لهادوت، كان فقر الفلسفة الحديثة هو نتيجة لإهمال التمارين الروحية. مع ذبول المسيحية وصعود العلمانية، كانت هناك إعادة ظهور للفلسفة فُهمت كطريقة في الحياة. هذا يمكن رؤيته في أعمال الفلاسفة امثال مونتين، كيركيجارد، نيتشة، وهايدجر.

سقراط

ان ممارسة التمارين الروحية في الغرب لوحظت اولا لدى سقراط الذي ادّعى ان "الحياة بلا ابتلاء لا تستحق العيش". عندما وقف سقراط امام محكمة اثينا مواجها تهمة المعصية وافساد الشباب، اخبر سقراط القضاة: "انا ليس لدي اهتمام ابدا بما يهتم به الناس حول الشؤون المالية او ادرارة الاملاك او الامور السياسية. انا لم أتخذ مثل هكذا مسار .. ولكن بدلا من ذلك وحيث استطيع عمل الشيء الجيد لكل واحد منكم .. عبر إقناعكم لتكونوا أقل اهتماما بما لديكم قياسا بما انتم فيه ..".

سقراط، الذي وصف نفسه بذبابة الحصان(التي تلدغ الحصان فتجعله يقظا)، استمر يحرض زملائه المواطنين للتحقق من عقائدهم ومسائلة طرقهم في الحياة. فوكو يرى انه من هذه "رعاية المرء لذاته التي قام سقراط بتقديسها .. تطورت الاجراءات ، والممارسات والصيغ ..".

الفلسفة كعلاج

"مالم تُعالج الروح، والذي لا يمكن ان يتم بدون الفلسفة، سوف لن تكون هناك نهاية لمآسينا" . شيشرون.

الايبيقيريون والشكاك والرواقيون كلهم اعتقدوا ان مهمة الفلسفة هي معالجة وتخفيف المعاناة. الفلسفة نُظر اليها كمرادف للدواء، والفيلسوف نُظر اليه كطبيب للروح يعالجنا من العقائد الزائفة ، والمخاوف اللاعقلانية والرغبات الفارغة.

هم اعتقدوا ان العواطف او المشاعر كانت المصدر الاساسي لمعاناتنا وسعادتنا. ذلك بدون الفلسفة، فان الاضطراب، والقلق، والخوف، واللااستقرار يحكم روحنا. "الفلسفة بهذا تبدو .. كعلاج للعواطف. كل مدرسة كانت لها طريقتها في العلاج .. ارتبطت بتحول عميق في اسلوب الفرد في الرؤية والوجود".

العلاج الرواقي

الرواقيون لم يسعوا للسيطرة او تخفيف العواطف، وانما هم سعوا لإزالتها. بالنسبة لهم، الحياة الجيدة هي حياة بدون عواطف. الرواقي الحكيم هو متحرر من العواطف والاثارة apatheia ، في اليونانية تعني بلا شعور. يجادل الرواقيون ان لا نعطي اهمية للاشياء الخارجية. عندما نربط انفسنا بما او بمن هو ليس تحت سيطرتنا فسنضع انفسنا عرضة للاضطراب والحزن. الحب، مثلا، يجلب معه الخوف من خسارته، ويجلب الغضب عندما يتهدد، والحسد عندما يتملكه شخص آخر، والشعور بالأسى عند خسارته. بالنسبة للرواقي، العواطف هي أصل جميع أحزاننا.

هناك شيء واحد يبقى تحت سيطرتنا وبأمان، وهو رغبتنا بعمل الخير او الشر. كل شيء آخر ليس متاحا لنا لا هو جيد ولا هو سيء، وانما لايختلف. هذا التمييز هو التركيز الدائم لانتباه الرواقيين."الرواقيون دائما لديهم القاعدة الاساسية في الحياة .. التمييز بين ما يعتمد علينا وما لا يعتمد".

الرواقي لا يبتهج عندما يرث ثروة ولا يأسف لو فقد ثروة عزيزة. الصحة والثروة بالاضافة الى الفقر والمرض، هي لاتختلف ايضا وبنفس المقدار. الخيرات الخارجية ليس لها تأثير على ما اذا كنا سعداء او تعساء. انها خياراتنا السيئة هي التي تؤذينا، وليس ما يحدث في العالم. الشيء الضروري الوحيد للسعادة هو الفضيلة.

نموذجهم ليس اخيل، في البكاء، ونفض الغبار، وتمزيق الشعر على وفاة صديقه باتروكلوس. وانما، هم نظروا لسقراط كيف انه واجه الموت بهدوء او الى الفيلسوف اناكساغوراس الذي عندما قيل له ان ابنه مات، قال، "انا كنت سلفا مدركاً بأني أنجبت بشرا".

 هناك شيء ما يقال عن الفرد الذي لم يُستعبد في بريق العالم. الرواقي يمكن وصفه " كشخص آمر لذاته – شخص بدلا من ان يكون عبدا للثروة، هو حقا حر لأنه لايهتم بالأشياء التي تمجد السيطرة. هو آمر لنفسه، هو يأمر كل ما هو مهم للعيش الجيد .. في عالم فيه معظم الناس يقيّمون الأشياء مثل النقود .. التي تبدو توفّر السلطة لكنها حقا تقدم العبودية .. الشخص الحكيم هو الشخص الوحيد الحر حقا".

العلاج الايبيقوري

الايبيقورية فلسفة تبحث عن هدوء الذهن فوق كل شيء آخر. تحقيق ذلك الهدوء يتطلب إزالة مصادر عدم سعادتنا وإضطرابنا. (الألم الذهني يعتبر أسوأ من الألم الجسدي). ابيقور يضع اللوم على الرغبات الفارغة والعقائد الزائفة. "سبب عدم سعادة الناس هو انهم يُعذّبون بالعدد الهائل من الرغبات الفارغة، مثل رغبات الثروة والترف والسيطرة". ابيقور يسمي هذه الرغبات بـ "الجوفاء" لأنها لاتعرف الحدود ولايمكن إشباعها. لا مقدار من النقود سيكون كافيا لاولئك الذين يتابعون حياة الثروة. هذه الرغبات ليست طبيعية وانما نتيجة للعقائد الزائفة والمجتمع الفاسد. الرغبات الطبيعية من جهة اخرى، لها حدودها ومن السهل إشباعها .الغذاء البسيط يمكن ان يشبع جوعنا .

لكن المصدر الاكبر للتعاسة والسعادة ، هو اكثر من مجرد العيش في حياة فارغة، هو خوفنا من الموت. الخوف من الموت يمكن ان يكون شديدا لدرجة يمكن ان يقود الفرد للانتحار. وكما يكتب لوكريتيوس احد حواريي ابيقور:

" ..الخوف من الموت

يحث على كراهية الحياة والضوء، والناس

متشائمون جدا لدرجة انهم يحطمون انفسهم

كونهم نسووا ان هذا الخوف

كان السبب الاول ومصدر كل المصائب".

ابيقور يجادل ان الخوف من الموت هو نتيجة للعقيدة الزائفة وهو واثق لو اننا نتبع حججه سنكون مقتنعين ان "الموت لا يعني شيئا لنا". الشكاك والرواقيون شاركوا عقيدة ابيقور بأن خوفنا من الموت هو خطأ وغير عقلاني. (بالمقابل، تقريبا كل الفلاسفة الحديثين اعتقدوا انه من العقلاني الخوف من الموت).

حجة ابيقور الرئيسية هي لو كان الموت سيئا، لكان سيئا لشخص ما. لكن الموت لايمكن ان يكون سيئا لمن هو لازال حيا، ولا للميت الذي هو لم يعد موجودا . لاشيء هناك يوجد بعد الموت بحيث يمارس المتعة او الألم او ينال الأذى بأي طريقة. لذلك، فان الموت لايعني شيء لنا . وهناك ما هو اكثر اقناعا في ما سمي "حجة التناظر" التي استعملها لوكريتيوس. هو جادل باننا طالما لانخشى عدم وجودنا قبل الولادة فيجب ان لا نخشى عدم وجودنا بعد الموت. او في لغة سينيكا: "الا تعتقد انه أحمق بالمطلق من يبكى بسبب انه لم يكن حيا قبل الف سنة؟ ألم يكن هو بنفس الغباء من يبكي بسبب انه سوف لن يكون حيا بعد الف سنة من الآن؟ كلها نفس الشيء، انت ما كنت ولن تكون".

من العصر القديم وحتى العالم الحديث، كان ابيقور ادين كساع وراء المتعة ومحطم للقيم التقليدية كونه عرّف السعادة بالمتعة. هو كان في الحقيقة زاهدا. المتعة بالنسبة له ليست شهوة وترفا وانما التحرر من الألم وبلوغ الهدوء والطمانينة. لو عشنا حياة بسيطة، وقيّدنا رغباتنا ، وحررنا أنفسنا من الخوف من الموت ، ونتعلم قبول ظروفنا الفانية، عندئذ نستطيع امتلاك حياة هادئة ونستعيد المرح البسيط للوجود، و الشعور بامتنان عميق للحياة.

التمارين الروحية

كل المدارس القديمة مارست "تمارين مصممة لضمان تقدم روحي تجاه الحالة المثالية للحكمة ... عموما، هي تتألف من السيطرة الذاتية والتأمل. السيطرة الذاتية هي اساسا تعني كون المرء مهتما ومراعيا .. في جميع المدارس .. الفلسفة ستكون بالخصوص تأمل نحو الموت وتركيز يقظ على اللحظة الحاضرة لكي .. نعيش في وعي تام " 17.PWL,59.

هادوت يضع التمارين التي مورست من قبل مختلف المدارس تحت ثلاثة عناوين: 1- التركيز على الحاضر2- رؤية الاشياء من الأعلى 3- التأمل في الموت. ان تمارين الموت كانت دائما مورست مع التمرينين الآخرين.

الانتباه الى اللحظة الحاضرة

" .. يعيش الانسان في العالم دون تصور له".. بيرير هادوت. نحن نستطيع فقط ان نكون في الحاضر لو نحرر انفسنا من الماضي والمستقبل. الوقت يجب ان يُمارس بطريقة تختلف تماما عن التجربة اليومية حينما نتأرجح باستمرار بين الذاكرة والتوقعات، الأسف والقلق، في عملية نخسر فيها اللحظة الحاضرة. " بالنسبة للقدماء ... التحول في رؤية المرء للعالم كان مرتبطا بإحكام بالممارسة التي استلزمت تركيز ذهن المرء على اللحظة الحاضرة .. مثل هذه التمارين ركزت على "فصل المرء عن المستقبل والماضي"، لكي تحدد اللحظة الحاضرة".

كل من الرواقيين والايبيقوريين اكدوا على اهمية كوننا في اللحظة الحاضرة. ولكن ماعناه هذا عمليا لهم كان مختلفا جدا. بالنسبة للرواقي كونه في اللحظة الحاضرة استلزم توترا دائم وجهدا. بالنسبة للايبيقوري كونه في اللحظة الحاضرة كان يعني تعلّم كيف تسترخي وتنال هدوء البال. "الفرق بين الموقفين هو ان الايبيقوري يستمتع باللحظة الحاضرة بينما الرواقي يرغبها بكثافة، بالنسبة لأحدهما انها المتعة، اما بالنسبة للآخر هي الواجب". مع انهما يبدوان متضادين، لكن الرواقية والايبيقورية يشبهان الشهيق والزفير، يكملان بعضهما البعض.

الموت والحاضر

معظمنا نعيش كما لو كان لدينا وقت لا متناهي والذي يفسر لماذا نعطيه تفكيرا قليلا جدا ونصرفه بحرية تامة. التأمل بالموت يمكن ان يوقظنا من نعاسنا، يجعلنا ندرك ان زماننا مختصر وكل لحظة فيه ثمينة. في كلام ساخر شهير لصاموئيل جونسن " عندما يعرف الانسان انه سيُقتل الليلة، سيركز ذهنه بشكل مدهش". الامبراطور الروماني الرواقي ماركوس اوريلوس اعتقد اننا سنتغير راديكاليا لو عشنا كما لو كنا في اليوم الأخير. "فكرة الموت الوشيك .. تحوّل طريقتنا في التصرف بطريقة راديكالية، عبر اجبارنا لنصبح واعين بالقيمة اللانهائية لكل لحظة:"نحن يجب ان ننجز كل فعل بالحياة كما لو كان الأخير". ديستوفسكي واجه موت وشيك وتغيّر الى الأبد. هو، الى جانب عدد من زملائه في حلقة بتراشيفسكي المجموعة الأدبية، وُضع امام صاروخ ، فقط ليُعفى عنه في آخر دقيقة من جانب القيصر نيكولاي الاول. هذا الموت الزائف جرى تنظيمه بدقة من جانب القيصر. احد السجناء اصيب بالجنون، آخرون اصيبوا بهلع دائم. وصف ديستوفسكي نُشر بعد عشرين سنة في الرواية، الأحمق. "ولكن من الأفضل لو أخبرتكم عن شخص آخر قابلته السنة الماضية ... هذا الرجل اقتيد مع آخرين ونال عقوبة الموت باطلاق النار .. هو يقول لا شيء اكثر رعبا من تلك اللحظة: "ماذا لو لم يمت ذلك الشخص .. سوف يحوّل كل دقيقة الى دهر، لا شيء سيضيع، كل دقيقة ستُحسب جيدا".

رؤية من الأعلى

يصف هوميروس آلهة اليونان اثناء حرب طروادة ينظرون بهدوء من السماء الى مشهد المتحاربين ، ذلك الوصف ربما كان مصدرا لتمرين روحي في رؤية الحياة من الأعلى، من نقطة نظر الألهة. هذا التمرين يسعى لتعليمنا النظر الى العالم والكون مع الانفصال والموضوعية، من وجهة النظر الكونية. "المسألة هي .. لتحرير المرء من فرديته، لكي نرفعه الى الكونية.. في ان يصبح مطلعا على نفسه كجزء من الطبيعة، وجزء من العقل الكوني".

من منظور الكوني، تبدو رعايتنا واهتمامنا تافهين وغير هامين. " الرؤية من الأعلى تغير قيمة أحكامنا على الأشياء: الرفاهية، السلطة، الحرب .. والقلق من الحياة اليومية يصبح سخيفا" .

الموت والرؤية من الأعلى

"لكي نرى الاشياء من الأعلى هو ان ننظر لها من منظور الموت ". بالنسبة لافلاطون، يحاول الفيلسوف دائما عزل نفسه بقدر الامكان، عن جسمه وأحاسيسه. هذا الفصل الروحي للروح من الجسم هو تدريب على الموت. "التدريب على الموت هو تدريب لفردية المرء وعواطفه، لكي ينظر للاشياء من منظور العالمية والموضوعية". (هنا افلاطون يستعير فكرة اورفيوس بان الروح محشورة في الجسم، وان الجسم قبر لها).

يجادل الوجودي بان هذه الرحلة للكوني هي وهم وانكار للموت. من المنظور الكوني، الموت قد يبدو مجردا وغير واقعي ولكن هذا اللااهتمام يختفي بسرعة عندما نواجه مستقبل موتنا.

التأمل في الموت

ان التأمل في الموت جرى في استعمالات مختلفة. انه استُعمل من جانب كل المدارس لتشجيع التركيز على اللحظة الحاضرة، ليجعلنا "نقتنص اليوم". بالنسبة للايبيقوريين" التأمل في الموت قصد به لجعلنا واعين بكل من القيمة المجردة للوجود وعدمية الموت، ليعطينا حب الحياة وليكبح الخوف من الموت". الرهبنة المسيحية وضعت التأمل في الموت في استعمال مختلف. انها مارست ذلك ليس لتعزيز حب الحياة وانما لكراهيتها. "الدرس المتعلم من قبل ابوت ايفاغرس Abbot Evagrius للرهبان الذين كانوا تحت مسؤوليته، هو انهم يجب ان يفكروا دائما بالموت وآلام الجحيم.. هذا اصبح مقبولا عالميا كتعليم طوال القرون المسيحية. يجب على المرء باستمرار احتقار الحياة الحالية، يتأمل في الموت كعقوبة للإثم، يفكر بلحظة الموت كأهمية استثنائية ويتأمل عذابات العالم الآخر ".

بالنسبة لايبيقور إعتبر الخوف من الموت الذي حث عليه الدين يفسد الروح ويحطم فرحة الوجود. كذلك، مونتاغن اراد ان يتعلم مثل القدماء احتقار الموت " نحن حين نتأمل الموت، ليس، كما تصر الكنيسة باننا نخاف منه، وننظم حياتنا طبقا له، وانما لأننا نصبح معتادين جدا لوجوده لدرجة نحن لم نعد نتأثر به". باختصار، نحن اما نحتقر الحياة او نحتقر الموت.

المسار الى الكوني

كما صنف هادوت التمارين الروحية تحت ثلاثة عناوين، هو ايضا اختصرها الى اتجاهين. هي ركزت اما على الذات او على التماهي بما هو أبعد من الذات. هناك "صلة عميقة وُجدت بين كل هذه التمارين.. هي بالنهاية يمكن اختصارها الى حركتين، متعارضتين ولكن متكاملتين.. واحدة تركز على الذات والاخرى توسيع للذات، كل واحدة تكافح لمثال منفرد.. الحكيم كنموذج كوني ".

مع استثناء الشكاك، الهدف من كل المدارس الفلسفية القديمة كان الوصول للكوني. التمارين الروحية لـ"التركيز على الحاضر" و "رؤية العالم من الأعلى" هما مساران مختلفان لنفس الغاية.

التمارين الروحية والزهد

ميز هادوت التمارين الروحية عن الزهد. التمارين الروحية التي مورست من قبل الفلاسفة القدماء كانت اساسا فكرية وتصورية، اي انها تمارين التفكير الفلسفي ، بينما الزهد يستلزم "تقشفا تاما او تقييدا في استعمال الطعام والشراب والنوم والملبس والملكية وخاصة الزهد في المسائل الجنسية". رغم ان هناك بالتأكيد عنصر زهد في كل المدارس القديمة. لكن هادوت تعرض للنقد لتحديده التمارين الروحية فقط على التمارين الذهنية. التمارين الجسمية كما مورست في اليوغا يمكن اعتبارها بنفس القدر تمارين روحية.

التمارين الروحية في العالم الحديث

في معظم المدارس الفلسفية كان الايمان بالنظام الكوني الخلفية والسياق الذي به تُمارس التمارين الروحية. الهدف من التمارين كان لجلب الروح الى انسجام مع نظام الكون. الايبيقوريون كانوا الاستثناء الكبير. بالنسبة لهم، لا وجود هناك لعقل كوني او نظام كوني، العالم يُتصور كنتاج للصدفة، وهو مجرد واحد من عدد لا متناهي من الأكوان. (في عدة طرق يبدو الايبيقوريون مثل المعاصرين) ولكن" الايبيقيوريين فعلا استفادوا من التمارين الروحية .. غير ان ، هذه الممارسات لم ترتكز على المعتقدات بالطبيعة او العقل الكوني".

المشكلة مع جهود هادوت لإحياء التمارين الروحية القديمة هي اننا لم نعد نسكن كونا. نحن لم نعد نعتقد، كما فعل الرواقيون والافلاطونيون، بان الكون مملوء بالعقل وهو شيء ما يمكن تقليده وننظم حياة المرء به. نحن الان ننظر الى الكون كحادث بدون هدف او اتجاه ، ليس كنموذج للتقليد . نحن نبحث عن المعنى ليس في نظام خارجي موضوعي وانما ضمن أنفسنا.

مع ذلك، كان هادوت ناقدا لتقييد فوكو للتمارين الروحية القديمة على التقنيات لصياغة الذات بدلا من محاولة الوصول للكوني. "من الصعب قبول ان الممارسة الفلسفية للرواقيين والافلاطونيين كانت لا شيء عدا علاقات مع ذات المرء .. الشعور بالانتماء للكلي هو عنصر ضروري .. مثل هكذا منظور كوني يحوّل الشعور الذي يمتلكه المرء عن نفسه".

لكن هادوت يفكر بشيئين. هو يعتقد ان ممارسة التمارين الروحية لاتزال ذات معنى في العصر الحديث. انت لاتحتاج لتصبح هنديا لتمارس اليوغا. لايزال، هناك شيء كان مفقودا، "أعلى نقطة يمكن ان تنالها الذات هي عندما يمتلك المرء الانطباع بخسارة نفسه في شيء يتغلب علي المرء كليا" .

بالنسبة للحديثين، العالم لا هو خلق لله ولا هو الهي وانما هو بلا هدف وبدون معنى. ومثلما يذكر عالم الطبيعيات ستيفن وينبيرغ ، "كلما بدا الكون قابلا للفهم، كلما ايضا بدا بلا معنى". نيتشة له حكاية تصف الظروف الحديثة. "في زاوية بعيدة من الكون .. كانت هناك نجمة عليها حيوانات ذكية اخترعت المعرفة. تلك كانت اللحظة الأعلى والاكثر خداعا في التاريخ العالمي ، لكن وبعد ان التقطت الطبيعة انفاسا قليلة، بدأت النجمة تبرد، وكان على الحيوانات الذكية ان تموت".

قد يخترع المرء مثل هذه الحكاية ولكن لايزال لم يوضح بما يكفي كم يبدو الفكر الانساني بائسا وضحلا وطائشا، كم هو عشوائي وبلا هدف .

رؤية نيتشة ربما تسمى رؤية محبطة من الأعلى – حكاية مشابهة قيلت من جانب برتراند رسل ربما هي مقالته الأكثر شهرة "عبادة الانسان الحر".

 

حاتم حميد محسن

.....................

Philosophy As a way of life, New York public Library, sep13, 2017

 

 

في المثقف اليوم