أقلام فكرية

مجدي إبراهيم: منهج الدّرس الفلسفي في الإسلام.. رؤية نقدية (10)

مجدي ابراهيمللقيم خواص روحية عامة ومطلقة توفر لها الثبات والدوام. وفرقٌ؛ وفرق كبير؛ بين أن تكون القيم في ذاتها موصوفة بالشمول والعموم والإطلاق، وبين أن يجيء أدراكُنا لها محدوداً بحدود ما نفكر فيه، وعلى مستويات تختلف باختلاف نسبية المدركين.

وبقدر ما يكون في المجتمع لهذه القيم من تقدير، يكون في الوقت نفسه سريانها بين أصلابه وأبنيته وطبقاته كما تسري سائر الأفكار الكبرى من عدالة ومساواة وحريّة أو ما شئت أن تضيف في صلب مجتمع مؤمن بوجود هذه الأفكار: حاملات القيم.

وكل أفكار التصوف تنويرية، تتكئ على تنوير القلب، وهى من جنس هذه الأفكار حاملات القيم، مرُّدها إلى الصفاء والروحانيّة، ذلك ما يجده الإنسان الروحاني في عبادته وفي سلوكه اللحظي وفي أعماله اليومية فضلاً عن أقواله، أو إنْ شئت قلت: في رسالته العلوية: تصوفاً رفيعاً هو إلى النقاء الذي يحسُّه في كيانه يسري، وفي أوصاله يجري؛ كأنه الدم يجرى معه مجرى العروق الضوارب تنبض بالحياة.  وأكثر كتّاب التصوف الحقيقين لا المزيفين في القديم والحديث، نقدة للقيم السلبية على الأصالة.

ــ تقدير عزلة الصوفي:

ويتصل بالمنهج الذوقي مباشرة (منهج التصوف) فهم دلالاته على أسسها وأصولها بعيداً عن الدعاوى التي لحقت به سواء من بعض المنتسبين إليه أو من الناقدين له. ونحبُّ في هذا السياق أن نوضح نقطتين كنماذج فقط في إطار إبراز الدلالة القائمة على تأسيس الأصل الروحي. النقطة الأولى: ترتبط بتهمة العزلة عن المجتمع التي نُسبت إلى الصوفية؛ كونهم غير فاعلين.

والثانية: أسرار الكتابة الصوفية وإيثار الرمز على التصريح، وهى تهمة أخرى تتناول غرابة اللغة وإشكالية التعبير في لفظ غامض غير مفهوم.

ومجملُ الرأي عندنا على هذا ينصرف إلى القول بأن التصوف ليس بدعاً غير صالح للزمن المتجدّد وتطورات الأيام كما يدعى ناقدوه، ولكنه أعلى الحقائق الدينية والذوقية على الإطلاق، وأصفى المنازع الروحية والعمليّة التي لا يكترث لها إلا جاهل تاريخياً وفعلياً بالثقافي والروحي في الحضارة الإسلامية.

صحيحٌ أنّ هنالك أدعياء للتصوف ولصقاء للصوفية أندسوا بين فِرَقه وصفوفه وهم ليسوا منه في شيء. لكن هذا لا يعني أننا نخلط الأمور؛ فلا نفرّق بين أصيل ودخيل أو بين تصوف مبنيٌّ على الكتاب والسّنة،  له أصول من التشريع والتحقيق وبين لصقاء العلم وأدعياء المعرفة من مدّعي التصوف ذوقاً وحالاً وتحققاً. فإنّ هذا الخلط غير صحيح في كافة الأحوال، ولا يمكن لمنصف عادل قبوله.

ما ترك من الجهل شيئاً من بطل الكل الصحيح من أجل الجزء الباطل. بمثل ما ترك من الجهل شيئاً أيضاً من عدم إنساناً لأجل أن عضواً من أعضائه لحقه العطب والفساد. وما ترك من الجهل شيئاً ـ مرة ثالثة ـ من حمّل أوازر أدعياء التصوف المزيفين إلى أهله الحقيقين، ونفى أن يكون هنالك علم اسمه تصوف أساسه المجاهدات، وغايته الاتصال بالملأ الأعلى ... من أجل ماذا؟ من أجل جماعة لصيقة للتصوف والصوفية أبعد ما تكون عن الانتساب إليه أو إليهم؛ فكيف تحسب على التصوف أوزارهم، وهو العلم الذي لا يتكفل إلا بمعالجة أحكام الباطن والظاهر سواء بسواء؟!

فمن الواجب اللازم أن نتورَّع ونحن ننظر في علوم القوم ونرى رجالاً لهذا العلم هم أنقى الرجال وأخشاهم لله حقيقة، وأكثرهم إتباعاً لصراطه المستقيم الذي ليس للبدعة عليه سلطان ولا إليه سبيل. ومن الصحيح أيضاً أن المنهج النقدي مطلوب في دوائر الفلسفة الإسلامية، وأنه في التصوف أحرى بالطلب وأولى، فمن شأنه أن يشجب عنه الخرافات التي يصدقها الأفّاكون من دعاة الرجعية والخمول، والمتشردون من عباد الزوايا ورواد الحانات، والمتشدقون بالدعوة إلى السلبية والاستكانة والخمول. ولكن الفهم أيضاً مطلوب. والتعميم عمل فاسد ضد المنطق العقلي بمقدار ما هو كذلك ضد الواقع الفعلي.

وكلما تضافرت عوامل النقد مع واجبات الفهم والمراجعة والتمحيص، تبينت الحقيقة واستطاع شبابنا الواعد أن يظفر بالمعرفة الواعية؛ فيخلق حياته خلقاً من جديد، ويقيم بناءَه على آفاق روحية رحبة واسعة، ليست باليسيرة الهينة، تنال بالكلام في المجالس والطرقات أو بصحبة من لم يهمه نزوع العقل وثراء المعرفة، ولكنها تنال بصحبة العقلاء من أهل الدُّربة والفضل والدراية.

بفعل النقد يتخلف الجهل ويتقدّم العلم والفهم، وتنجلي روحانيات التصوف واتجاهاته التنويرية القلبية. ولا حاجة بنا إلى كثير عناء حين نذكر على الدوام أن هناك اتجاهات تنويرية تصاحب آراء الصوفية الأوُّل ... فمن ذا الذي لا يأخذ على الصوفية اصطناعهم العزلة والعزوف والنظر إلى مفاتن الدنيا ومغرياتها بازدراء ما بعده ازدراء؟

من ها هنا؛ تقوم هجمة شرسة على الصوفية لاعتزالهم الحياة، ولا يوجد كتاب من كتب المحدثين إلا ويفيض بمثل هذا الهجوم دون نظر فاحص يتدبّر أقوال الصوفية في هذا الميدان؛ ماذا عساهم يقصدون بالعزلة، حين يكون معناها منصرفاً إلى ظاهر من القول يتلوه باطن هو المقصود إذا نحن فهمنا على الحقيقة مقاصدهم؟

وظاهر الأمر أن العزلة انعزالٌ عن حياة المجموع، وقلة المساهمة في نهضة المجتمع، وعدم الضرب في زحمة الحياة والأخذ منها بأوفى نصيب. ولكن الظاهر من الفهم ليس هو المقصود ولا هو الحقيقة في كل حال؛ ففضلاً عن آداب العزلة التي لا يختلف عليها اثنان والتي ضمخت بها كتب الصوفية، وجاءت لتؤكد أن العبد ينبغي أن يحصل من العلوم ما يصحح به توحيده؛ لكيلا يستهويه الشيطان بوساوسه، ثم يجب عليه أن يحصّل من علوم الشرع ما من شأنه أن يؤدي به فرضه، ويحسن عمله في إطار العلم المحفوظ بسياج شرعي؛ ليصير بناء أمره على أساس محكم.

أقول؛ ففضلاً عن هذا كله وما شاكله؛ فنحن واجدون مفهوماً ذوقياً تنويرياً للعزلة باعتبارها عزل السر عن طغيان المجموع، واعتزالاً للخصال الذميمة والآفات القادحة في تصحيح التوحيد. وليس بكافٍ لك أن تكون منعزلاً متوحداً جهولاً بأوامر التحليل والتحريم أو كما قال المتنبي: (في وحدة الرهبان إلا أنه.. لا يعرف التحريم والتحليلا)، وإنما يكفيك من عزلتك تبديل الخصال الذميمة بالخصال الحميدة، وإفراد السر لله مع إتاحة الفرصة للمشاركة الظاهرة للمجموع؛ فالتأثير لتبديل الصفات لا للتنائي عن الأوطان.

ولهذا قيل: من العارف؟ قالوا: كائن بائن، يعني كائن مع الخلق بائن عنهم بالسّر؛ وذلك لأن السر باطن وعمله مراقبة الله وكفى، ولأجل هذا قال أبو عليّ الدقاق: (ألبس مع الناس ما يلبسون، وتناول ممّا يأكلون، وأنفرد عنهم بالسِّر).

ولمّا أن سئل محمد الجريري عن العزلة قال: هى الدخول بين الزحام وتمنَعُ سرَّك أنْ لا يزاحموك فيه، وتعزل نفسك عن الأنام، ويكون سرُّك مربوطاً بالحق. بمثل هذه الأقوال وما يناظرها تتشكل رؤية تنويرية عالية المقام في التصوف؛ فالمقاصد غير المقاصد، والمفهوم من وراء كل مقصد يحتاج إلى تعاطف قلبي وخلوص سريرة. ولا نكاد نشك في أن هذا ضرباً من تنوير الباطن منقطع النظير. فالمعول الأساسي على السر وعلى الدخائل الجوانية الباطنة التي ينفردُ بها من يقتدر على تهذيب سره وصقل حواشيه.

ــ أسرار الكتابة الصوفية:

وما يقالُ في غيبة الفهم للعزلة يقال كذلك في غيبة الفهم لأسرار الكتابة الصوفية؛ كون لغتهم لغة رمزية غير مفهومة؛ فإنّ أعجب العجب في أسرار الكتابة الصوفية أنك إذا لم تكن تصدرها عن ذاتك لم تجد لها مذاق العرفان.

كل كتابة في أي مجال أهون من هذا النوع من الكتابة، فما عليك إلا أن تتصوّر الفكرة ثم تصيغها بلا مجهود الوفاق بين الذات وما تقول، إلا الكتابة الصوفية عليها من رقابة الضمير ما يؤخرها فيفقدها المذاق، إذ لا تصدر عن نفس ولا عن عقل ولا عن هوى ولا عن كبر باطن ولا عن غرض؛ بل عن رقابة باطنة للأقوال والأفعال بُله السرائر والمصائر.

والفرقُ بين كتابة العارف وكتابة غير العارف: أن الأول يكتب وهو يعرف ما يكتبه، وسعادته في صدره ولا ينتظر من الناس كثيراً أو قليلاً يحمد عقباه. يأخذ مدده من ربه ولا يعول على رأي الناس فيما عساه يقول. أمّا غير العارف فاستمراره مرهون برأي غيره فيه، ولا يخلو من انتظار المدح والثناء على أعماله، يداخله الرياء فيها وتخرج وعليها من حظوظ النفس ما من شأنه أن يحبطها، ولا يزال جاهلاً لم يقترب من منطقة العلم ولا من موارده الفياضة بعطاء الربوبية قيد أنملة، ثم يموت ولم تخلع عليه خلع القبول.

العبارة والإشارة كالروح والجسد، يستحيل الانفصال بينهما. الإشارة كالروح والعبارة كالجسد. والعلاقة بين العبارة والإشارة كالعلاقة بين الظاهر والباطن؛ فظاهر العبارة هو ما تدل عليه من حيث وضعيّة اللغة. وباطن الإشارة هى ما ترمز إليه من حيث هى لغة إلهيّة، حتى إذا كان أهل الظاهر يتوقفون عند العبارات ومعانيها التي تعطيها قوة اللغة الوضعية، وجدنا العارفين ينفذون إلى ما تسير إليه لغة الإشارة من معان وجوديّة وإلهية. من أجل ذلك؛ اتخذوا من الرمز وسيلة للتعبير عن لغةٍ ليست بالعادية ولا بالمألوفة. وإذا نحن تسألنا عن علة استخدام الرموز والإشارات في حقول المعارف الذوقية، لم يكن هنالك مبررٌ أقوى ولا أقنع من أحكام التجربة الصوفية وفروضها؛ فللتجربة فروضها وأحكامها التي توجب عطاء اللغة رمزاً لا تصريحاً؛ إذ كان التعبير بالرمز هو وحده الذي يقابل الحالة الصوفية التي لا تكيفها عبارة عاديّة ولا يسعها لفظ معتاد.

فرضت الحالة الصوفية وجوداً من الخيال ليس له مقابل من اللغة الوضعيّة الاصطلاحيّة، ولا يمكن كشفه إلا في ظلال التجربة؛ إذ تسفر التجربة عن ارتقاء الحالة الروحيّة، وهى بالطبع حالة معتمدها القلب ولا تخاطب العقل؛ بل تخاطب الشعور الوجداني العميق، إذ ذاك تخلق هذه الحالة معادلاً من الخيال الخلاق إذا هو شاء التعبير عن عالمه لم يجد لغة لفظيّة عادية كلغة الوضع والاصطلاح تعبّر عنه؛ فيلجأ إلى الرمز ويتخذ من الإشارة الرمزية لا العبارة العادة وسيلة للتعبير غير  المعتاد.

للتصوف ممّا لاشك فيه دلالة من قرارة الواقع؛ فهو روح تنبض بها حياة المادة الصماء التي نتعامل معها صباح مساء؛ فلا يزيد تعاملنا معها إلا اعوجاج الحق وطغيان الباطل، وعنت الفضول الصادر عن شهوات الأهواء.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم