أقلام فكرية

ف. م. كورنفورد: ايروس او دافع الحب في محاورة (المأدبة) لافلاطون

محمد حسين النجمبقلم: ف. م. كورنفورد

ترجمة: د. محمد حسين النجم

الجامعة المستنصرية


 تعد محاورة (المأدبة) قريبة في تاريخها من محاورة (فيدون)، والتي يصبح فيها خلاص سقراط من سجن أثينا، عبر الموت الاختياري، رمزا لخلاص النفس الإنسانية من سجن الجسد عبر تعلقها بالحكمة.

وبعيدا عن أي المحاورتين كتبت أولا، واشك بانها كانت فيدون، فان افلاطون شعر بالحاجة لان يعلق الى جانب الصورة التي رسمتها (فيدون) لسقراط، صورة أخرى، مختلفة ما امكن.

لكل دراما عقلية أجوائها الطبيعية، فمثلما العاصفة ضرورية لـ (الملك لير) والهدوء بعد العاصفة ضروري لـ (العاصفة)، والجو الطبيعي لـ (فيدون) ساعة الغسق التي تسبق الليل: (لازالت الشمس فوق قمم الجبال، لم تذهب الى المغيب بعد) وتختفي عند الغروب بحديث سقراط الأسطوري حول الجنة الارضية للنفوس المتطهرة، فان اجواء (المأدبة)غارقة في الأضواء المتلألئة لوليمة (اجاثون) محتفلا بفوز مسرحيته بالجائزة.

اثنى سقراط عند وصوله على حفاوة استقبال الشاعر، متحدثا عن حكمته بانها فضيلة ليس لها حظ عن الواقع اكثر مما للحلم، ولكنك في ريعان الشباب، وحكمتك متألقة وواعدة، تلك الحكمة التي اشرقت منذ يومين أمام أعين اكثر من ثلاثين الف يوناني). و(المأدبة) تنتهي عند الفجر، وهي تصور سقراط يتحاور مع شاعرين وسنانين سرعان ما غطا في النوم، ليذهب بعدها يغتسل، ثم يزجي بقية يومه يتحاور في (اللقيوم).

 إن (فيدون) أظهرت الصفة التقشفية في شخصية سقراط، رجل الفكر الذي تقلقه احاسيس وشهوات الجسد. كانت تلك صفة فيه، القى الكلبيون ثقلهم عليها واتبعوا السبيل التي تقودهم من انكار الجسد الى حيث يجد الحكيم ذاته منفيا في بيت الكلاب (دن ديوجين)، معلنا فضيلة الفردية، ليس بامتهان نعم الحياة فقط، بل وآدابها أيضا.

كان افلاطون يطلق على هؤلاء (اللامهذبون، غليظو الطباع، واللامتناغمون)، الا ان سقراط لم يكن كذلك، بل كان، بالأحرى، ضيفا مقدما ومحتفى به في مأدبة متألقة لشاعر شاب، واذا ما سمي رجل ضبط النفس الفائق، فذلك لا يعني ان ليس ثمة شيء في طبيعته يستوجب الضبط، كان قادرا على ان يبز اقرانه في شرب الخمر، ولكن لم يشاهد يوما مخمورا قط، وهو لم يتجاهل او يمحي الجانب العاطفي من الطبيعة الإنسانية، كما يحلو لبعض النقاد المتأخرين قوله، بل سلك تجاهها سبيلا اخر، ان رجل الفكر كان، في الوقت ذاته، رجل العاطفة، وطالما سمى نفسه (المحب)، ليس بالمعنى المبتذل للكلمة - وحديث القبيادس يجعل من ذلك واضحا تماما- أنه المحب فقط. ومحاورة (المأدبة) مسعى لبيان دلالة الـ (ایروس) لمحب الحكمة. في محاورة (الجمهورية) يقسم افلاطون النفس الى ثلاثة اجزاء: التأملي او العقلي، الروحي او الغضبى، والشهواني، ويحدد الفضائل المختلفة للحكمة، الشجاعة، العفة، والاعتدال كما تظهر في الطبيعة المركبة للإنسان في حالته الراهنة من عدم الكمال. النقطة الجوهرية لهذا التقسيم الثلاثي هو أن كل جزء من أجزاء النفس يتسم بشكل محدد من الرغبة. فضلا عن ذلك، هذه الاشكال الثلاثة من الرغبة تتسم هي ذاتها بموضوعاتها الخاصة. وهكذا، فحينما يثبت افلاطون بأن رجل الطغيان هو اكثر الرجال بؤسا، فهو يلاحظ بأن كل جزء من أجزاء النفس له متعته ورغبته المميزة التي لابد من ضبط كل واحد منها. الجزء التأملي يرغب بالفهم والحكمة، بينما الغضبى يهدف الى النجاح، والحظوة، والقوة، فيما الشهواني سمي كذلك لنزوعه الخاص الى رغبات التغذي والجماع، وسبيله في الارضاء الحسي، الاكتناز وحب المال.

بناء عليه، تكون لدينا ثلاثة أنماط رئيسية من الصفات البشرية المميزة تتحدد وفقا لسيادة رغبة او اخرى من ثلاثة تهيم باحثة عن متعتها في تأمل الحق، والطموح في التنافس والكسب المادي. يؤكد أن المتع الدنيا، بمعنى من المعاني، خاطئة ومضلة، ولكن لا ينبغي، من جانب اخر، أن تسحق وتكبت بل يمكن ارضائها بشكل افضل اذا ما كانت تحت قيادة العقل من أن تترك لذاتها. خلاف هذا، اذا ما تجاوز أي من الجزئين الأدنيين الضبط المطلوب فأنه لا يدفع الاخريات الى تحقيق متعة باطلة فقط، بل لا يجد كذلك الارضاء الحقيقي القادر على اشباع لذاته. في هذا المجال تكون الادنى هي الأسوأ، فحياة يسودها انغماس حسي غير منضبط هي أقل الجميع متعة..

يظهر هنا أنه لا ينبغي التفكير بالنفس باعتبارها منقسمة الى عقل، أي جزء مفكر من جانب، وشهوة لا عقلية في الجانب الاخر، أو أن نفكر بصراع داخلي بين عقل خال من الهوى، وعلى حق دائما، وعاطفة أو رغبة، على باطل تماما. ان التحليل يشي الى القيمة الزهدية لكبت وإماتة الجسد، التي تتجاوز الهوي والرغبة، لصالح التأمل المحض. وجل ما تقدمه محاورة (فيدون) هو قيم من هذا القبيل مثلما تبين لنا أن ما نسميه (النفس) هو الجزء الأعلى من الأجزاء الثلاثة فقط، والذي، لوحده، الخالد، في حين يسمي الجزئين الاخريين (الجسد أو الجسم).

اهتمت (فيدون) بالموت ودلالته بالنسبة للإنسان الكامل. بالنسبة لهذا الانسان تكون الفلسفة مران على الموت، والموت هو الخلاص من الجسد، لكن محاورة (الجمهورية) تهتم بحياتنا الحاضرة والخير الذي يمكن أن نستحصله من طبيعتنا المركبة، والتي فيها يمكن لجميع اشكال الرغبة الثلاث ان تحقق ارضائها المشروع. هنا مفهوم الفضيلة يتركز في مفهوم انسجام الرغبات - الحالة التي يحقق فيها كل جزء متعته المناسبة ويجد ارضاءه الحق، دون أن يجور او يغمط الاخرين حقهم، فلكل نوع من الرجال نوع واحد فذ من التوازن والانسجام الممكن بين رغباته المتعددة، وهي حالة ليس بالضرورة أن تكون عامة، الا انها تكون اكثر استقرارا وسعادة من الأخريات. ووراء هذا يكمن حل مثالي - يعطينا الفرد الكامل في الكتب الأخيرة من محاورة (الجمهورية) - يتموضع هذا الحل في الجانب العقلي. هناك تربية عالية تفضي الى معرفة كاملة يمكنها أن تشكل نمط فريد من الرجال لابد أن يتقلد السيادة على المجتمع الانساني أي الفيلسوف - الملك. الا أن العملية ليست عقلية صرفة، انها تتضمن تهذيب الرغبة هذا الملمح يتم تطويره في محاورة (المأدبة) في نظرته لـ (الأيروس) وهي تسمية الدافع الى الرغبة في جميع اشكالها.

لابد ان نعرف الان بان الدوافع الثلاثة التي تشكل الأنماط الثلاثة للحياة ليست متميزة بشكل نهائي

او عوامل متنافرة في ثلاثة أجزاء منفصلة لنفس مركبة، او ان بعضها في النفس والاخر في الجسد. آنها مظاهر لقوة واحدة او قنوات لطاقة واحدة نسميها (ایروس)، تتجه خلال مسارات مختلفة الى نهايات متعددة. هذا المفهوم يجعل من تسامي الرغبة ممكنا، حيث يمكن اعادة توجيه الطاقة من قناة إلى اخرى وتدفقها يمكن أن يتحول صعودا وهبوطا. عملية الهبوط تحلل في الكتاب الثامن والتاسع من (الجمهورية) هذا الهبوط يقود إلى جحيم الحسية عند رجل الطغيان. في حين أن عملية الصعود يتم تأشيرها في محاورة (المأدبة).

 سوف اغفل الأحاديث التمهيدية التي تقدم افكارا حول طبيعة (ایروس) والتي اما ان يتم تبنيها أو نقدها في مجرى حوار سقراط، آخر المتكلمين الستة، يتحدث سقراط بعد (أجاثون)، الشاعر، الذي قدم ثناء عاطفيا بليغا على (ایروس) كما صورته مخيلة الفنانين. وهو يسعى لأن يصف (طبيعة ايروس ذاته)، فهو اسعد الالهة، اجملها واصغرها، شفاف ورقيق في شكله. يمتاز بكل فضيلة، فهو عادل ۰

ولا يفعل ولا يعاني الظلم، معتدل، لأنه مهيمن على جميع المتع اذ ليس ثمة متعة اقوى من متعة الحب، شجاع، لان (مارس) ذاته لا يقدر على مقاومته، حكيم، فهو يحول كل من يلمسه الى شاعر.

 يشرع سقراط بعدها بمداخلة نقدية مع اجاثون. بالتفاتة ذكية يعفي مضيفه من الظهور الساذج حين يدعي انه هو ذاته قد تحدث عن (ایروس) بحديث مشابه الى (ديوتيما)، كاهنة (ما نتينا) الحكيمة. وعلى هذا امكن لسقراط أن يجعل كل تصوراته عن (ایروس) لاتعود له بل الى الكاهنة ليهرب من الاعتراف بانه يعرف عن (ایروس) اكثر من اقرانه. آن وصف اجاثون ل (ایروس) بانه بارع بكل جمال وفضيلة ليس وصفا لایروس) على الإطلاق، بل لما هو موضوع هذه الرغبة، هذا النقد يؤشر الظواهر المختلفة للتشخيص، ما تمثله (افرودیت) و(ایروس) في الفن عالي التطور، بصفته يمثل المرأة والفتى ذوا الجمال المثالي، هي تمثلات لما هو قابل ان يكون محل رغبة، وليس الرغبة ذاتها تمثلات لموضوع الحب وليس الحب ذاته. من هنا يمكن الافتراض بان موضوع (ایروس) في جميع اشكاله من ادناها الى اعلاها، هو شيء يمكن أن نسميه إما (الجميل) أو (الخير) حيث الجمال والخير يمكن أن يتمظهرا في اشكال متعددة، تترتب خلال سلم الوجود برمته. هذا التعدد في الاشكال هو ما يميز الانواع المتعددة للرغبة، الا ان العاطفة ذاتها تبقى هي ذاتها بشكل اساسي. دیوتیما اوردت البرهان ذاته الى سقراط (الرغبة ينقصها ما ترغبه)، الا انها اضافت بانه، اذا ما افتقد (ایروس) الحب والخير، فهذا لا يلزم عنه أنه قبيح وسيئ. من الممكن آن لا يكون خيرا ولا سيئا. ففي التعبيرات الاسطورية، (ایروس) ليس الها ولا بشرا، ولكنه كائن يتوسط بين الاثنين، واحد من تلك الأرواح التي تؤكد الصلة بين العالمين الالهي والفاني، لان موضوع (ایروس) يمكن أن نجده في كلا العالمين، المرئي واللا مرئي، فهنا جمال مرئي مشابه لذاك الجمال غير المرئي وراءه، و(ایروس) يمنح الروح اجنحتها التي تعبر بها البرزخ. ما يشير له هنا هو ان الرغبة ذاتها محايدة، ليست خيرة ولا شريرة، فهي تستمد قيمتها من موضوعها، هذا الموضوع تم وصفة اولا بعبارات عامة (ايروس) هو الرغبة في امتلاك الجمال والخير، أي السعادة.هذه الرغبة عامة، (الجميع يهوي الأشياء ذاتها دائما). في الحديث الشائع يقصر (ایروس)، بشكل خاطئ على ما هو في الحقيقة شكل واحد فقط من اشكال هذه الرغبة الكلية. ومثلما الأمر في كلمة (ابداع) التي تعني في حقيقتها ابداع لكل نوع، الا انها اطلقت بشكل خاطئ على نوع واحد هو – النظم الموزون للشعر - كذلك الأمر بالنسبة لأسم (ایروس) الذي لا يناسبه أن يقصر على نوع من العاطفة، بل يعني الحقيقة (أي رغبة وكل رغبة في الأشياء الخيرة وفي السعادة). تلمح (ديوتيما) بعدها الى أنماط الحياة الثلاث والى اولئك الذين مالوا للبحث عنها في بعض الاتجاهات المختلفة، بعضهم في أحراز الثروة، وبعضهم في النشاطات الرياضية، واخرون في السعي للحكمة، هؤلاء لا يطلق عليهم (محبون) وليسوا في حالة (حب)، الاسم اسئ استخدامه حين اطلق على أولئك الذين وجهوا طاقتهم نحو شكل واحد.

 من هذا المفهوم للخزين العام للقوة المحركة يتوصل افلاطون في مكان اخر الى استنتاج يقوم على التجربة: أن كمية الطاقة الموجهة الي قناة ما لابد من سحبها من القنوات الأخرى، كما لوان المتاح منها كمية محددة.

 في محاورة (الجمهورية) تصور النفس كمخلوق مرکب، جزء منه انسان، واخر اسد وثالث على شكل وحش متعدد الرؤوس وأیما امرئ پزجي الثناء للظلم، فهو كمن يرى من المناسب تغذية وتكريس جزء (الوحش) وافقار واضعاف لجزء (الانسان) مما يعني ترکه تحت رحمة الآخرين. حين يستخدم تعبیر (ایروس) لتحديد الطبيعة الفلسفية بالميل الجوهري نحو الحق يستخدم ثانية الكناية عن القنوات (عندما توجه رغبات الفرد بقوة في اتجاه واحد فإنها تضعف بشكل متناسب في الاتجاهات الأخري، مثل تيار تحول مياهه في قناة مختلفة، وبناء عليه، عندما تنساب الرغبات باتجاه المعرفة في جميع اشكالها، فان رغبة الانسان سوف تتحول الى اللذات التي تملكها النفس بذاتها، عازفة عن لذات البدن، ان لم يكن حب الحكمة فيها زائفا)، ثم يمضي سقراط في توضيح كيف تشكل الشخصية بكاملها بواسطة هذه العاطفة الرئيسة.

يمكن أن نرى الآن بوضوح اكثر كيف ان فضيلة النوع الاعتيادي، المتناغم الرغبات في الطبيعة المركبة، يمكن أن تتأثر بإعادة تكييف الدوافع الطبيعية، خلال هذه الحياة لابد للطاقة ان تنساب خلال جميع القنوات بشكل مناسب... جزء منها لابد ان يكون لحفظ الحياة البشرية، المتعة المرتبطة بوظائف البدن تجذب القوة الضرورية، وهي طاهرة، اذا ما تمت السيطرة عليها ولم يساء استخدامها الى نهاية الحياة.جزء آخر يجب ان يذهب الى اهتمامات وواجبات الحياة المدنية. لذا فإن حب القوة يرجى ويكافأ بالشرف الممنوح من قبل المجتمع، وحب الحق والخير سيجد ارضاءه في ممارسة الحكمة النظرية والعملية، انسجام العناصر الثلاثة سيتحقق من خلال التوزيع التعادل للطاقة المتاحة.

ولكن هذا ليس نهاية القضية، أو نهاية بحث(ديوتيما)، انها الان تحدد الموضوع العام لكل رغبة بوصفها امتلاك الخير، مع اضافة ذات دلالة هي (إلى الأبد)، كيف يمكن تحصيل هذا من قبل الكائن الفاني؟ بواسطة النشاط المميز للحب، التوليد. في جميع الموجودات البشرية هناك حافز لتوليد الأطفال، وسواء اطفال الجسد او اطفال العقل. لن تكون المتعة الفردية المباشرة بالجمال هي الهدف، بل ديمومة الحياة بفعل خلاق حين تحرر خادمات الجمال والهة الولادة الحامل من الأم المخاض. التوليد هو الصفة الالهية في الحيوان الفاني.. و(ايروس) هو، في المحصلة النهائية، الرغبة في الخلود. حتى في اشكالها الدنيا، نجد (ایروس) يكشف عن هذه الصفة الالهية، حينما يصل بها الى شي ما ابعد من موضوعاتها المباشرة والظاهرة، ابعد من أي سعادة شخصية يمكن تحقيقها والتمتع بها خلال حياة الفرد.

 في مستواها الأدنى، في الشكل الحيواني للرغبة الجنسية، نجد الهدف هو خلود النوع، تقول (ديوتيما): (الا تدرك ان جميع الحيوانات تعاني شعورا غريبا حينما تتملكها الرغبة في التناسل. يشعرون جميعا بهياج عاطفي، للاتصال أحدهما بالأخر أولا ثم لإطعام صغارهم، ولهذا الهدف يتقاتلون ويتصارعون ويضحون بحياتهم، او انهم يفقرون أنفسهم لإطعام ابنائهم، لن يتوانوا عن فعل أي شي)، والسبب هو أن الطبيعة الفانية تبحث، في حدود قدرتها، على وسيلة البقاء الى الابد

وأن تكون خالدة، وهذا يمكن ان يتحقق، ليس للفرد ذاته، بل يرفد الحياة بالجديد الذي يحل محل القديم: حياة الفانين بأجمعها ليست سوى تجدد وتغير، فان الثبات صفة الالهة وحدها وهذا هو الخلود الوحيد الممكن لجنس الفانين.

يكتب افلاطون، وهو يناقش ترتيبات الزواج في آخر محاوراته (القوانين) (إن وظيفة الإنسان أن يتزوج، متذكرا ان هناك إحساسا يجعل الجنس البشري، بشكل طبيعي، يشارك في الخلود - وهو الشيء الذي من أجله غرزت الرغبة بجميع أشكالها في الإنسان، لأن رغبته في الشهرة وان لا ينتهي إلى القبر دونما ذكر، هي رغبة في الخلود. جنس الانسان يتوائم مع الزمن ويسير بمقتضاه في وحدة يحتملها الى النهاية، وهو خالد بهذه الصفة - أن يخلف الأولاد اولادا، وبذلك يبقى الجنس دائما واحدا ومتماثلا ومشاركا في الخلود بوسيلة التوليد.

هذا المقطع يذكر الرغبة في خلود الذكر، وقد اشارت دیوتيما إلى هذا: (اذا ما اخذت في اعتبارك الطموح الإنساني، فانك ستعجب من لاعقلانيته ان لم تتأمل ما ذكرته، وأن تلاحظ مدى غرابة سلوك البشر في مسعاهم لخلود الذكر.، وان يبنوا مجدا دائما عبر الزمن). (ایروس) هذا يمتاز بكونه يمثل جزء النفس العاطفي او الروحي.عادة ما نفكر في طموحات هذا الجزء باعتبارها موجهة الى النجاح الواسع وتأكيد الفردية، الا ان الرغبة هنا لاتصل الى خلود يشبع متعة الفرد ولهذا السبب نجده يضحي بكل ما هو ممتع بل وبالحياة ذاتها. وعلى هذا فهناك سبيل ثالث يمكن للفرد من خلاله أن يخلد شيئا من ذاته، واعني توليد الابناء، ليس من جسده بل من عقله. من هذا النوع الشعراء والفنانون المبدعون الذين تبقى اعمالهم تحمل افكارهم الى الاجيال القادمة. ومنهم ايضا المربون الذين ينجبون أطفالا من نوع انقى واكثر ديمومة، بزرع أفكارهم في عقول لامعة تعيش ثانية، لكي تنجب مرة اخرى اجيالا أخرى من الأبناء الروحيين. ومع المربين يمكن أن تضع المشرعين - ليكورغوس وصولون - الذين تركوا شرائع وتنظيمات تعد وسيلة خالدة يتمرن بها مواطنوهم على الفضيلة. وحول هذه النقطة مضت (ديوتيما) للقول: (لعلك، يا سقراط، تكون مطلعا على هذا القليل من اسرار (ایروس)، ولكنني لا ادري ان كنت قادرا على الفهم التام للهدف الذي تقود اليه. سوف لن أفشل، من جانبي، بان اوضح لك ذلك قدر استطاعتي، وعليك أن تتابعني بكل ما أوتيت من قوة). امیل الى الاتفاق مع أولئك الباحثين الذين يرون في هذه العبارة مسعى افلاطونيا لتأشير الحدود التي وصلتها فلسفة استاذه. كان سقراط امير اولئك المربين الذين استطاعوا أن يولدوا أبناء روحيين في عقول الاخرين ومساعدتهم على تولید افكارهم. هل ذهب لما هو ابعد؟ آن الخلود في جميع الاشكال الثلاثة التي تعمق في وصفها هي انواع لخلود الكائن الفاني، الذي من الممكن ان يخلد جنسه، او ذكره، او افكاره في الاخرين. الا ان الفرد ذاته لا يخلد، أنه يموت ويترك شيئا ما وراءه. هذا خلود في الزمن وليس في عالم دائم. كل ما احتوته تلك الاسرار القليلة هو حق، حتى وان لم يكن ثمة عالم آخر، أو وجود دائم لأي عنصر من عناصر النفس الفردية.

 الكشف عن العالم الاخر - عالم المثل الخالد - يستبقى للأسرار العظيمة التي ستأتي. واذا كنت مصيبا في الاعتقاد بأن فلسفة سقراط كانت فلسفة الحياة في هذا العالم في حين فلسفة افلاطون تركز على عالم آخر، فهنا تكون نقطة الافتراق بينهما. الخط الذي يفصل الاسرار الصغرى عن الاسرار العظمى هنا يتطابق مع التقسيم بين مرحلتي التربية التي وصفت في (الجمهورية). التربية الدنيا في رياضة الجمناستك والموسيقى، في الكتب المبكرة، والتربية العليا للفيلسوف في الكتاب السابع.

في (الجمهورية) الانتقال يغيب بمناقشات بينية طويلة لقضايا اخرى، ومحاورة (المأدبة) ترفدنا بالرابطة. ان هدف تلك التربية الموسيقية الدنيا أن تنتج في النفس، التبصر، الانسجام، الايقاع، البساطة في الشخص. هذه تشابه المثل الخالدة لـ (الاعتدال)، (الشجاعة)، وغيرها من الفضائل الأخرى، الموجودة في النفوس الفردية. مثل هذه الصورة، لذاك الذي يستطيع أدراكها، هي موضوع التأمل الاكثر اجلالا ومحبة: انها تبعث الـ (ایروس) في الرجل الموسيقي، الى حيث يجب أن تنتهي، في الميل الى الجمال، وليس الميل الى المتعة الحسية. من هذه النقطة تبدأ الأسرار العظيمة لـ (المأدبة). انها تصف التحول لـ (ایروس) من حب الشخص الجميل الى حب الجمال ذاته. انها تتطابق مع التربية العقلية العليا لمحاورة (الجمهورية)، حيث تتحول عين النفس من اوهام الكهف الى عالم الشمس المشرقة العلوي واخيرا الى رؤية مثال الخير. في هذا التحول الاخير يصبح (ایروس) نزوعا نحو الخلود، ليس في الزمن بل في عالم الأزل. هناك أربع مراحل في هذا التطور. المرحلة الأولى هي انفصال (ایروس) من الشخص الفرد ومن الجمال الطبيعي. الموضوع الفردي يفقد بريقه في حقيقة أن كل جمال طبيعي هو واحد ومماثل، في أي فرد ظهر.

يكتب (السيد سانتيانا): العواطف، الى الحد الذي تكون به دوافع للفعل توقعنا، ماديا، في شراك تدفق الجوهر، كونها تهدف الى الاستيلاء، التحويل، او تدمير ما هو موجود، ولكن في ذات الوقت، والى الحد الذي تعمل على اثارة العقل، فإنها مناسبة لإدراك الماهية، وان النفس الغضبية فقط هي من يمكنها التأمل. ان مكافأة المحب، والتي هي في الوقت ذاته تطهير له، هو أن يكتشف انه في تفكيره بان يحب أي شيء في هذا العالم يكون على خطأ فادح. كل امرئ يكافح من أجل الامتلاك، وتلك غريزة الحيوان التي يقوم عليها كل شيء، ولكن التملك يجعل المحب الحقيقي لا يشعر بالرضا، متعته في شخصية ما يحب، في الماهية التي تتكشف عنها، سواء كانت هنا او هناك، الان او بعدئذ، له أو لغيره. هذه الماهية، التي كانت بالنسبة للفعل مجرد علامة تدفعه لان يفقد الدافع الحيواني للنوع لصالح التأمل هو الموضوع الكلي للحب، والمكسب الوحيد في الحب. علينا لاحقا أن نتعلم تقييم الجمال الأخلاقي في العقل بدرجة أعلى من جمال الجسد، وان نتأمل الوحدة والصلة بين هذه جميعا باعتبارها الاشرف والانبل - وهو المعنى الثابت في التشريع والسلوك.

المرحلة الثالثة تكشف الجمال العقلي في العلوم الرياضية. هنا يصبح (ایروس) الدافع الفلسفي للامساك بالحقيقة المجردة ولاكتشاف ذلك النوع من الجمال الذي تجده (الهندسة) في (النظرية) و(علم الفلك) في (النظام المتناغم للأجسام السماوية). في المرحلة هذه نشيح ببصرنا عن الموضوعات الفردية وصور الجمال الزمنية، وندخل إلى العالم العقلي.

الموضوع الأخير الذي يقع وراء الجمال الطبيعي والأخلاقي، والعقلي - هو الجمال ذاته،هذا يتكشف للحدس بشكل مفاجئ. اللغة هنا تعيد الى اذهاننا الإلهام السامي للأسرار (الاليوسية) - الكشف عن الرموز والاشكال القدسية للألوهية في الومض الخاطف للنور. هذا الموضوع خالد، لا يطاله التغير والنسبية، لا يظهر في أي شيء آخر، لافي أي شيء حي ولا في الأرض ولا في السماء بل هو دائما (بذاته)، ممتنع بشكل تام عن التأثر بالصيرورة والفناء، لا يشاركه في صفته شيء. فعل التعرف هذا هو رؤية شهودية، والذي به تتصل النفس بالموضوع النهائي (ایروس) وتدخل في حالة امتلاك له. وهكذا يصبح الانسان خالدا بالمعنى الالهي. وكما في محاورة (الجمهورية)، اتحاد النفس مع الجمال يدعى زواجا - الزواج المقدس عند الاليوسية - وما يتولد عن هذا الزواج ليس اوهاما مثل صور الخير تلك التي تبعث الحب ابتداء للشخص الجميل، بل فضيلة حقيقية، هي فضيلة الحكمة، لان افلاطون يعتقد بان هدف الفلسفة هو أن يصبح الانسان الهيا، يعرف الخير من الشر بوضوح ويقين يمكنه أن يتفادى الباطل في تقرير ارادته. الفعل الأخير للمعرفة يوصف بصفته حدسا مباشرا حيث لا يعد ثمة أي ممارسة للفكر. عين النفس تتأمل الحقيقة بشكل مباشر. لعله علينا، او ربما يجب أن نحدس أن الوصف يقوم على بعض تجارب للحظات فائقة مر بها افلاطون. ليس في الموروث محذور من الافتراض بأنه قد مر بحالة من التجلي او الجذب الروحي. الأفلاطونيون المحدثون أنشدوا بلهفة لأي تقليد مشابه كان له وجود في المدرسة، استعمل افلاطون لغة الاسرار (الاليوسية) لانها مناسبة للرؤية الخاطفة التي تصل اليها بعد عملية طويلة من التعليم والاطلاع. ولكن، الالهام عند (الاليوسية) في الحقيقة لا يحوي من الجذب الروحي اكثر مما يحويه سمو القربان المقدس. وربما ينبغي أن ندعو تجربة افلاطون بانها ميتافيزيقية أكثر منها دينية - في ادراك الحقيقة النهائية. من جانب اخر، فهي ليست عقلية محضة، بل هي تحول لكل عنصر في النفس بواسطة التجلي الأخير لـ (ایروس): وعند تلك النقطة يصبح التمييز بين الميتافيزيقي والديني غير ذي معنى.

 في العودة الى نظرية الـ (ایروس): الطاقة التي تحمل النفس الى تلك الذرى السامقة، هي ذاتها التي تتمظهر في المستويات الدنيا من الغريزة التي تديم الجنس، وفي كل اشكال الطموح العام. انها طاقة الحياة ذاتها، القوة المحركة للنفس، وقد عرف افلاطون النفس بشكل دقيق بانها ما يملك حركته الذاتية. مبدا (الإيروس) الأفلاطوني تمت مقارنته بل ومطابقته مع النظريات الحديثة حول التسامي، الا ان الغرض النهائي لأفلاطون وفرويد يبدو انهما يتقاطعان على طول الخط. ساد العلم الحديث مفهوم التطور.... الترقي من الغرائز البدائية والفظة لسلفنا من الحيوان الى المظاهر العليا للحياة العقلية. وهو مفهوم لم يكن غريبا على الفكر الإغريقي. المدرسة الفلسفية المبكرة كانت تعلم بأن الإنسان قد تطور من مخلوق يشبه السمك، باض في الوحل واصابه دفء حرارة الشمس. الا ان افلاطون رفض بإصرار هذا النمط من التفكير، الانسان بالنسبة لأفلاطون زرع يمد جذوره في السماء لا الأرض. في اسطورة التقمص يعد الحيوانات الدنيا انواعا مشوهة ومنحطة، تسجن فيها الانفس التي لا تتناغم مع نسبها السماوي كي تدفع ثمن سقوطها، الطاقة الذاتية المحركة للنفس الإنسانية تستقر عادة في الجزء الأعلى، ذي الطبيعة الخالدة. انها لا تنبع من الأسفل، بل هبطت من الاعلى بعد أن سقطت الروح في شراك الجسد، وهكذا فعندما تسحب الطاقة من القنوات السفلى، فهي تعود الى منعها الأصلي

هذا بالحقيقة هو التحول او التقمص ولكنه ليس تسامي للرغبة الموجودة في الأشكال السفلى فقط. القوة التي كانت في اصلها روحية تصبح، بعد انحدار عرضي وزمني، روحية محضة مرة ثانية. ان التضاد مع فرويد لا يعود فقط الى سوء فهم وغرض مبيت بل يعود الى حقيقة أن الشعور الديني للمسيحية كان، على الأقل في البداية، تحت تأثير الافلاطونية.

 انني اتبنى وجهة النظر بان كلمات (ديوتيما) الى سقراط عن عتبة الأسرار العظمى، والذي تشك بان يستطيع متابعتها الى الاخر، بانها تشير الى ان افلاطون يذهب الى ما هو أبعد من سقراط التاريخي، انها توضح بان هذا التفسير يجعل افلاطون (متهما بعجرفة الادعاء بانه وصل الى ذرى فلسفية لم يستطعها سقراط التاريخي).

ان افضل تعقيب حول (المأدبة) يمكن أن نجده في (الكوميديا الإلهية). ان دانتي كانسان كان اكثر عجرفة من افلاطون، ولكنها لم تكن فقط العجرفة تلك الى جعلته يترك (فرجيل) مهملا عند اعتاب النعيم الأرضي قبل ان ينطلق من الأرض الى السماء، كان (دانتي) قد تخطى دوائر التطهير السبعة، وهو الان طاهر من الاثم. و(فرجيل) الذي كان يقوده، يمكث عند الحكمة الانسانية او الفلسفة، والتي يمكنها أن تقود الى نعيم ارضي ولكن ليس سماويا، المقايسة ليست تامة. الذي قاد (دانتي) الى الذرى العالية هو الوحي المسيحي، الحكمة الالهية التي يرمز لها بـ(بياتريك) - ليس تطورا فلسفيا انسانيا، بل نعمة الهية. ولكن، اذا كان ثمة مقايسة، فلعل افلاطون كان يعني ان فلسفته، وهي تركز على عالم آخر، تذهب لما هو أبعد من المذهب الواضح لأستاذه، ولو انها ربما تكون واضحة في حياته وسلوكه. هذا لا يعني انكارا لكون سقراط فلسوفا مثاليا، والذي عاش حياة سعى افلاطون للوصول اليها، ولا يعني هذا أن افلاطون ادعى بانه فيلسوف اعظم من استاذه، مثلما لم يدع (دانتي) بأنه شاعر افضل من (فرجيل).

 

.......................

*Cornford، F.M.: The unwritten philosophy and other essays، Cambridge university press، UK، 1950

 

في المثقف اليوم