أقلام فكرية

محمد محفوظ: الانسان في رؤية الدكتور علي شريعتي

محمد محفوظيعتبر الدكتور علي شريعتي في الساحة الإيرانية أحد مفكري المشهد الثقافي والفكري الإيراني، وأن الدكتور ساهم في تعبئة الجمهور الإيراني للقيام على النظام الديكتاتوري البهلوي السابق.. ونظرة فاحصة إلى المشهد الإيراني، يكتشف المرء فيه أن هذا المشهد عاش مجموعة من الحركات الاستقلالية الإسلامية، التي تطالب بالاستقلال والخروج من كتب الأنظمة الاستبدادية وقد توجت هذه الحركات بحركة الامام الخميني الذي تمكن عبر ثورته من اسقاط الشاه وتفكيك كل الوقائع والحقائق السياسية والاقتصادية والثقافية الداعمة لنظام الحكم الاستبدادي والعمل مع النخبة السياسية الجديدة على بلورة آفاق الثورة في أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية..
وكان الدكتور علي شريعتي أحد رواد الثورة التي ضخ فيها الفكر والتصورات الثورية التي حررت الإنسان من جموده وانهزاميته ومواقفه السلبية، وحولت هذه الأفكار إلى مشروع رافض للديكتاتورية ومحارب للاستبداد ومؤيد لخطاب الثورة التي انتصر فيها الشعب الإيراني على جلاديه.. (ومنذ بداية الأربعينات وحتى سقوط مصدق (1953م) اكتسح التيار الوطني الديمقراطي المتمثل أساسا بخط مصدق والجبهة الوطنية، ساحة النضال الوطني في البرلمان والشارع على حد سواء..وخلالها أيضا، ظلت أغلبية الفئة العليا من المؤسسة الدينية غير فعالة في الكفاح السياسي، لكننا مرة أخرى، نجد جناحا من المؤسسة يتعاون مع مصدق، وكان الرمز البارز لهذا الجناح، هو آية الله الكاشاني، الذي بدأ نشاطه السياسي عندما عاد إلى إيران من النجف الأشرف (1946م)، ثم تصدر الدعوة إلى التطوع للجهاد دفاعا عن فلسطين.. وبالرغم من أن دعوته لم تلق نجاحا يذكر، بسبب الموقف الرسمي للحكومة، إلا أنها اكسبته شعبية كبيرة، ما أعطى لتحالفه مع مصدق أهمية بالغة، فكان هذا التحالف أهم عماد لجهود الحركة الشعبية، كما كان انتهاؤه أهم عامل في سقوطها، فعندما اختلف الكاشاني مع مصدق ووصل بموقفه حد معاداته، جرى استغلال هذا الموقف من قبل بقايا نظام الشاه ومنظمي انقلاب 1953 م ضد حكم مصدق..
خلال فترة امتدت أكثر من أربعين عاما – من نهاية الثورة الدستورية وإلى الخمسينات -، عاشت الحركة الإسلامية مرحلة انحسار نسبي، وتراجع الدور القيادي والفاعل للتيار الإسلامي، وبالرغم من الرموز النضالية البارزة التي شهدتها هذه الفترة (كوتشك خان، خيابابي، المدرس، الكاشاني – حتى 1953 م)، إلا أن القسم الأكبر من المؤسسة الدينية، خصوصا قمتها، ظلت غير نشيطة في النضال السياسي).. (1)
ولعل ما يميز علي شريعتي أنه اعتنى بالإنسان وعمل عبر محاضراته المتنوعة إلى بث الروح والعزيمة في حياة الإنسان العادي.. وبهذا الجهد هو الذي حول غالبية الشعب الإيراني إلى قوة ضاربة بيد الحركة الإسلامية لتقويض النظام الديكتاتوري الشاهنشاهي.. (شهدت الستينات من القرض الماضي – وهي الفترة التي شهدت بروز دور شريعتي، تحولات هامة في الوضع السياسي بإيران، وفي مسيرة الحركة الوطنية الإيرانية.. ففي أوائل الستينات، بدأ الشاه عهد الانفتاح السياسي، الذي رأى منظروه بأنه ضرورة حيوية لمزيد من الانفتاح على الغرب.. فمجموعة السياسات الإصلاحية التي اتبعها الشاه في مجال الاقتصاد والمجتمع، استهدف تعميق تبعية إيران وتغريب اقتصادها وحياتها الاجتماعية أكثر فأكثر.. لذلك رأى أيضا منظرو الشاه، أن هذه السياسة تحتاج إلى مزيد من الليبرالية في الحياة السياسية..
لقد كانت تلك الفترة، فترة رسملة الريف وإنشاء الشركات الزراعية الكبرى، وتوسيع الاستثمارات الأجنبية في إيران، وإعطاء حقوق الحصانة للأمريكيين، وتضخيم مؤسسة الجيش وجعلها أكثر ارتباطا بالولايات المتحدة، ورافق ذلك أيضا إجراءات اجتماعية، شكلت بمجملها تغييرات هامة في البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الإيراني..
وهكذا أصبح النضال ضد التبعية، وضد التغرب محور النضال الوطني آنذاك، بعد أن بدأ الوعي العام لخطورة تلك السياسة يزداد تبلورا..
إن ذلك، يفسر إلى حد كبير، تراجع دور الجبهة الوطنية الثانية وسقوط أطروحتها: " نعم للإصلاحات لا للاستبداد "، ويفسر أيضا، أحد أهم أسباب النهوض الإسلامي الذي شهدته إيران بداية الستينات، والذي كان بروز الامام الخميني وتكوين حركة تحرر إيران من أهم علاماته..
إن التمسك بالإسلام، كعنوان للأصالة، وسياج يحمي الاستقلالية، وأيدلوجيا معبئة في الكفاح الوطني المناهض للسيطرة الأجنبية، برز بوضوح خلال تلك الفترة.. فكما كان الشاه – السائر على خطى أبيه رضا شاه – يعرف خطورة الإسلام في إيران،وضرورة إضعاف مواقعه أو مسخه وتشويهه، من أجل تسهيل عملية تغريب إيران، فإن قطاعات هامة من الحركة السياسية ومن الجماهير، بدأت هي الأخرى تعي أهمية الإسلام كسلاح مضاد فعال، وكأفضل إطار لخوض نضالات المرحلة..
وبالرغم من أن النضالات التي خاضها الإمام الخميني، وحركة تحرر إيران – والتي كان محورها النضال ضد السيطرة الأجنبية وإصلاحات الشاه وإعطاء حقوق الحصانة للأجانب و......، قد انتهت إلى انتكاسة مفجعة في سنة 1963 م، انهت النضال العلني للحركة الإسلامية، وأدت إلى اعتقال قادتها ونفيهم، إلا أنها أنهت أيضا أسطورة سياسة الانفتاح، والأوهام التي علقتها تيارات أخرى على تلك السياسة.. لكن التمسك بالإسلام وبالتيار الإسلامي ازداد بعد 1963 م ولم يضعف..
منذ 1963 م، جمد قادة الجبهة الوطنية الثانية نشاطهم السياسي مرة أخرى، فأوجدوا بذلك ارتباكا وتشتتا كبيرين في قواعد الجبهة.. وقد ظلت تنظيمات الجبهة الوطنية في الخارج – أوروبا وامريكا – هي الوحيدة التي تنشط، والتي كانت لها مواقفها المتميزة، حتة أثناء تلكؤ قيادة الجبهة (1960-1963 م) إلا أن تنظيمات الخارج هذه، توزعت اتجاهاتها ونشاطاتها بعد 1963 م، فالقسم الأكبر من الطلبة، اتجهوا نحو مواقف يسارية أو أقرب إلى اليسار وهم، وأن ظلوا عامين باسم الجبهة الوطنية في الخارج، إلا أن خطهم السياسي، في الواقع، كان قد اصبح غريبا على تراث مصدق والجبهة الوطنية، وكانت هذه التنظيمات قد أعلنت في أواخر السبعينات، تحولها فعلا إلى تنظيمات شيوعية وتخلت عن اسم الجبهة..
أما المؤسسة الدينية، فقد استمر الصراع فيها بين اتجاهات مختلفة، كان أهمها اتجاهان: أحدهما يقوده الامام الخميني، ويدعو لتثوير المؤسسة ولتصدرها للكفاح الوطني المناهض للاستعمار، والإيمان بأن الإسلام هو رسالة دائمة وثورة دائمة، وهو دين سياسة وعبادة، وأن الكفاح السياسي هو من صلب واجبات المسلمين، ومن باب أولى علماء الدين، اما الاتجاه الآخر، فقد مثله بعض الفقهاء مثل شريعتمداري، وكان يدعو إلى الحفاظ على قدسية المؤسسة الدينية وكرامتها وذلك بعدم توريطها في نزاعات الدنيا وفي الصراعات السياسية. إن هذا التيار حاول إبقاء المؤسسة الدينية منزوية عن الكفاح السياسي، رغم تحفظاته وانتقاداته للنظام السياسي ولبعض سياسات السلطة، خصوصا السياسات الاستبدادية. وكان هذا التيار في المؤسسة الدينية، أقرب إلى مواقف الوطنية الثانية، رغم أنه لم ينشط، حتى في تلك الحدود، بل حاول تحييد المؤسسة الدينية وعزلها، حتى الشهور الأخيرة قبل انتصار الثورة الإيرانية.
بعد نفي الإمام الخميني واعتقال عدد من علماء الدين، تراجع دور الاتجاه الذي مثله، بينما ساد التيار الآخر في المؤسسة الدينية طوال الفترة الممتدة من (1963 إلى 1979م)، أي إلى أن حسمت الحركة الشعبية المعركة لصالح تيار الإمام الخميني.
إن الفترة التي نشط فيها شريعتي داخل إيران – منتصف الستينات إلى 1977م- كانت فترة تشتت وانحسار الحركة الساسية المنظمة، فترة اختمار النهوض الإسلامي، فترة صراع الإيديولوجيات في الحركة السياسية. لكن هذه الفترة، لك تكن انحسارا مطلقا ولا فراغا حقيقيا، فهي لم تخل من نضالات وطنية منظمة، حيث نشطت منظمات، مثل مجاهدي الشعب وفدائيي الشعب في العمل المسلح، وإن كان ذلك العمل قد اتسم بطابع العمليات المحدودة والاغتيالات. كما جرت محاولات عدة لبناء منظمات سياسية سرية. إلا إنه يمكن القول إن أسبابا عدة – منها منهج الحركة السياسية المنظمة وطبيعة تكونها وأساليب عملها، وكذلك القمع المنظم الذي مارسته أجهزة الشاه-، حاولت دون تكون أي حركة كبيرة منظمة في الستينات وأوائل السبعينات. لذلك جرى التمهيد الأساس للثورة الأخيرة خارج أطر التنظيمات السياسية التقليدية. أي أنه جرة أساسا، ضمن وسائل التعبئة والتنظيم والتحريض التي وفرها الإسلام والمراكز الإسلامية (مساجد وحسينيات)، وضمن أسلوب تكون المؤسسة الدينية(الهيكلية التنظيمية للمرجعية الدينية للشيعة، والمدارس الدينية بشكل خاص). ولكن، وقبل ذلك كله، كانت عملية التعبئة الفكرية، والكفاح الذي خاضه علي شريعتي وآخرون على صعيد أكثر شمولية، صعيد الإيديولوجيا والفكر، هو الذي مهد فعلا – إلى جانب أسباب أخرى- للنهوض الإسلامي المنظم في ما بعد، وللحركة الشعبية التي ساهمت في الثورة الإسلامية.
لقد بدأ علي شريعتي حياته السياسية بالإسهام في النهوض الشعبي الذي قاده مصدق، ثم كعضو في حركة المقاومة الوطنية عام 1945م، ثم كعضو في حركة تحرر إيران عام 1961م، ومؤسس لفروعها في أوروبا. لكن دوره الأساس كان في مجال الفكر، والواقع أنه انتبه إلى أهمية هذه الناحية في فترة مبكرة، عندما كان يساهم في نشاطات مركز نشر الحقائق الإسلامية الذي أسسه والده. وقد نظم شريعتي بنفسه حلقات للدراسة والنقاش في المدرسة الثانوية التي كان يدرس فيها، ثم في الجامعة.
وتعتبر فترة دراسته في الخارج، ومعايشته لظروف الانتكاسة والتشتت بعد العام 1963م، فترة تبلور أفكاره وتحديد أسلوب عمله، وبالرغم من أنه بدأ حياته السياسية ضمن تيار بارز كان-الطالقاني، إلا أن أطروحاته الفكرية في ما بعد، تجاوزت هذا التيار وآفاقه. فعد أن درس في فرنسا الفلسفة وعلم الاجتماع وتاريخ الأديان، واحتك بالمدارس الفلسفية الأوروبية وبحركات التحرر العالمية -خصوصا الجزائرية-، كون منظومة فكرية متكاملة و وجهة نظر شاملة حول الدين والسياسة وتاريخ الشيعة. ووضع لنفسه رسالة مؤداها، تنقية الدين الإسلامي من شوائب عهود الانحطاط والتخلف، وجعله -كما كان في الأصل- ثورة اجتماعية، لذلك سعى إلى أن يجعل مفهومه للإسلام إطارا للثورة الإيرانية.
كان شريعتي يريد من خلال العودة إلى أصالة الإسلام، بناء منظومة أيديولوجية وفكرية كاملة، تشق طريقها كخط ثالث بين الأيديولوجيتين الماركسية والبرجوازية (الليبرالية). لكنه كان يائسا بشكل مطلق من المؤسسة الدينية القائمة. لذلك استهدف بناء شيء جديد تماما، شيء ينهض من وسط الشعب وبأيدي جيل الشباب أنفسهم. لهذا كانت مهمته في غاية الصعوبة، وقد اصطدمت حركته بمعارضة بعض رجال الدين الذين رأوا في أطروحاته نوعا من البدع، واتهموه مرة بالبهائية والوهابية وبالزندقة، ومرة بالتغرب وأخرى بالعمالة للصهيونية.
عندما قرر شريعتي العودة إلى إيران في منتصف الستينات والشروع بمجهوده الضخم، لم يحاول أبدا بناء حزب سياسي، ولا الدخول في إطارات منظمة. فقد كان واعيا لظروف المرحلة، ومعتقدا بأن نقطة البدء هي في الإعداد الفكري والإيديولوجي، الذي يجب أن يسبق عملية البناء التنظيمي والممارسة الثورية. وبالرغم من هذا، فقد ظل على صلة طيبة مع التجمعات السياسية الموجودة.
إن استناد شريعتي إلى الإسلام، يتجاوز حدود الالتزام بالدين كإيمان وكمراسم عبادة، ويتجاوز أيضا كونه يمثل هوية الإنسان المسلم وانتماءه، بل إنه حاول أن ينظر لإيديولوجيا إسلامية، لمنظور شامل، واثقا بأن نظرة معينة إلى العالم، تقود إلى مواقف فكرية وسياسية معينة أيضا. ففي معرض تحليله لسيرورة الفلسفة المثالية والمادية والبنى السياسية والاجتماعية المبنية على كل واحد منهما، يصل إلى اعتماد النظرية التوحيدية التي تهدي الإنسان إلى نظرة صحيحة للعالم، فهي مضافا إلى انعكاساتها الاجتماعية تضمن طريقا مستقلا عن الشرق والغرب، وتهيئ أيضا الأساس الفكري لنهوض العالم الإسلامي).. (2)
ولم يبحث علي شريعتي موجبات الثورة من خلال أفكار خارج الفهم الإسلامي، وإنما عمل على صياغة رؤية اجتماعية للدين، تبشر بالإيمان وتعمل على إخراج الدين من صومعة الانعزال وجعله من جديد دين للحياة والكفاح الاجتماعي..
ولاريب ان تصفية الإسلام مما علق به من خرافات وبدع وصيانته من التغرب والالتحاق بالنموذج الحضاري الغربي ساهم في ان يتحول إلى مشروع للقيام والثورة..
هذا ما عمل من أجله علي شريعتي وكان جهده الفكري والثقافي يصب في هذا الاتجاه..وفي تقديرنا أن علي شريعتي نجح في أداء دوره وفي تعبئة الشعب الإيراني باتجاه المطالبة بالحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية..(ويرى علي شريعتي في الدفقة الروحية التي تنتجها " العودة إلى الذات " نوعا من الاعجاز الذي يجعل من الوعي محركا للتاريخ والمجتمع، يعكس المفهوم المادي الذي يجعل من المادة محركا للفكر والوعي المنعكس على المادة..
وتلك ظاهرة لم يستطع علماء الاجتماع الوضعيون فهمها ما خلا ماكس فيبر.. فالمجتمعات الراكدة " الآسيوية "، أو الثالثية " العالم ثالثية " أحدث فيها الدين " الجزائر " أو لاهوت التحرير " أمريكا اللاتينية"، ناهيك عن إيران نهضة روحية – سياسية قلبت الأمور رأسا على عقب ضد الاستعمارين الخارجي والداخلي وتبدل حال المثقفين " الغرباء " – المحليين والعفويين – غير " المتغربين " ولا السلفيين، فباتوا لا يستطيعون اعتناق الايدلوجيات السائدة، فيهاجرون إلى الذات، في حركة من الوعي المستقل، المقترن بالإيمان والأصالة).. (3)
الأيدلوجيا والإنسان:
على المستويين المعرفي والإنساني من حق أي إنسان، أن يتبنى رأي أو منظومة فكرية، لأن هذه من الحقوق الأساسية للإنسان، ولا يمكن لهذا الإنسان حتى لو تنازل عن هذا الحق، أن يعيش الحياة بدون هذا الحق. فمن لوازم الوجود الإنساني أن يمتلك رأيا وفكرة تجاه كل الظواهر الإنسانية سواء كانت فردية أو جماعية.
ولعل بعض المشاكل التي تحدث في المجتمعات الإنسانية، حينما تتشكل رؤية دينية أو دنيوية أن من حق القائمين على هذه الرؤية امتلاك هذا الحق، وبالتالي يتم التعدي الأيدلوجي على أحد حقوق الإنسان الأساسية تحت تبريرات معينة قد يقتنع بها الإنسان ضمن ظرف محدد أو قناعة أيدلوجية ثابتة.
إلا أن أي تحول يصيب الإنسان، سيلتفت إلى هذا الحق المنزوع وسيعمل على إعادة هذا الحق.
فالأيدلوجيات ليست مهمتها انتزاع حقوق الإنسان الأساسية، أو التعدي على البعد الذي لا غنى للإنسان عنه. وكل أيدلوجية سواء كانت دينية أو غير دينية تسيطر على هذا الحق فإن الإنسان حينما يتحرر من قيود هذه الأيدلوجية، سيلتفت إلى حقه، وسيعمل لإعادته إليه. وبالتالي فإن الأيدلوجيات التي تمتلك شهوة التدخل في تفاصيل وخصوصيات الإنسان، لا سبيل مستديم إلى نجاحها وتميزها في أي بيئة اجتماعية.
وعليه فإن الإنسان ليس في موقع خدمة الأيدلوجيا، ومن يعتقد أن مهام الإنسان الأساسية خدمة هذه الأيدلوجيا أو تلك، فإنه يمارس تزييف الوعي لهذه الأيدلوجيا ولدور الإنسان في الوجود والحياة. فالإنسان ليس خادما للإيدلوجيا، وإنما الأيدلوجيا هي في خدمة الإنسان سواء على المستوى المعنوي أو الاجتماعي.
والإنسان حينما يضحي بحياته من أجل مبادئه، فهو في حقيقة الأمر يدافع عن وجوده النوعي بفعل عوامل احتقان أو غضب ليس للأيدلوجيا أي دخل بها. فالإنسان حينما تغضبه السياسة أو الأوضاع الاقتصادية أو أي شيء آخر فهو يضحي بنفسه بوصف أن هذه التضحية هي التي ستحرر المجتمع الذي أنتمي إليه من كل القيود والأغلال التي تفرضها الأوضاع والظروف السياسية أو الاقتصادية.
وعليه فإن الأيدلوجيا بما تمتلك من مخزون معرفي ومعنوي جاءت لخدمة الإنسان ونقله من طور لآخر.
وبالتالي فإن الأيدلوجيات سواء كانت سماوية أو غير سماوية، جاءت من أجل أن يعيش الإنسان حياة جديدة، مختلفة وتفرض هذه الأيدلوجيا أن هذه الحياة أكثر سعادة واستقرارا.
نسوق هذا الكلام من أجل نحرر علاقة الإنسان والأيدلوجيا من نزعة الهيمنة والخدمة التي لا تنتهي.
ونعتقد بشكل جازم أن الأيدلوجيا التي لا تخدم الإنسان ولا تسعى إلى تطوير وجوده على المستويين المادي والمعنوي، فإن هذه الأيدلوجيا لن تصمد في حياة الإنسان وسرعان ما يفارقهما هذا الإنسان لصالح رؤية أو أيدلوجيا جديدة أو مغايرة.
ولعل النقطة المركزية في تحرير العلاقة بين الإنسان والأيدلوجيا هي في تحرر من يخدم من، هل الأيدلوجيا خادمة للإنسان أم العكس.
نحن نعتقد أن الأيدلوجيا هي بمثابة خريطة طريق يسير عليها الإنسان سواء في حياته الخاصة أم العامة، وإن الالتزام بهذه الخريطة ستجنب الإنسان الكثير من الصعوبات والمآزق.
وعليه فإن الأيدلوجيا هي في موقع خدمة الإنسان على المستويين المعنوي والمادي، الفردي والجماعي.
وإن أي تغيير في هذه المعادلة سيضر جوهريا بالإنسان والأيدلوجيا في آن واحد..
وعليه فإن الأيدلوجيا التي تكون معبرة بشكل صحيح عن جوهر الإنسان وفطرته الأساسية، فإن هذه الأيدلوجيا ستنجح في تقديم خدمات جليلة للإنسان، وستتمكن هذه الأيدلوجيا من التمكن من تقديم الخدمات الضرورية للإنسان..
أما إذا كانت هذه الأيدلوجيا مغايرة للإنسان أو غير منسجمة وطبيعة الإنسان وفطرته الأساسية فإن هذه الأيدلوجية ستتحول إلى قيد حقيقي يمنع الإنسان من ممارسة حياته بشكل سليم.
بحيث تكون هذه الحياة متناغمة بشكل دقيق مع ما يصبوا إليه الإنسان انطلاقا من خصائصه الإنسانية والميولات الجوهرية التي تفرضها الفطرة التكوينية للإنسان..
ونحن نعتقد إن بناء هذه الرؤية في علاقة الأيدلوجيا والإنسان والعكس، سيحرر الإنسان من الكثير من القيود والكوابح التي تحول دون أن يعيش الإنسان حياة مستقرة وعميقة. وإن مربط الفرس أن يعيش الإنسان حياة طبيعية ومستقرة، تبدأ من طبيعة العلاقة التي تربط الإنسان بالأيدلوجيا التي يحملها.
وعليه فإن كل أيدلوجيا تسوغ لحاملها قتل الإنسان المختلف بدون سبب إلا سبب الاختلاف، هي أيدلوجيا مضرة للإنسان راهنا ومستقبلا.
وكل أيدلوجيا تمنع الإنسان من تلبية غرائزه وحوائجه البيولوجية والإنسانية بشكل سليم ومتوازن، هي أيضا أيدلوجيا كابحة للإنسان ومانعة لطمأنينته واستقراره النفسي والاجتماعي.
وكل أيدلوجيا تحول الإنسان إلى قنبلة موقوتة ضد من يختلف معها، فإن هذه الأيدلوجيا ستحول دنياها إلى جحيم يحرق كل من يختلف معها أو يتباين معها.
وما أحوجنا اليوم إل الأيدلوجيا التي تحترم الإنسان وتتعامل مع كل لوازمه بوصفها دائرة يحرم فيها التعدي عليها من قبل أي إنسان آخر. فكل أيدلوجيا تقتل من يختلف معها، هي أيدلوجيا تدمر الوجود الإنساني ولا تقدم خدمة جليلة للإنسان.
وكل أيدلوجيا يضيق صدرها بالمختلف وتعمل على اجتثاثه واستئصاله، هي أيدلوجيا تساهم في عسكرة الحياة وإدخال الإنسان المؤمن بها في خطر وجودي.
نحن نحتاج إلى رؤية وأيدلوجيا تعتز بالإنسان وجودا وحقوقا سواء كان مؤمنا بها أو لا.
ونحتاج إلى رؤية تعمل على حماية وصيانة كل أشكال التنوع والتعدد في الحياة الاجتماعية والإنسانية.
إن تحرير علاقة الإنسان بالأيدلوجيا من أعباء القتل وسفك الدم وتصحر حياة الإنسان، هي الخطوة الأولى في بناء مجتمع أكثر استقرارا وحيوية وفعالية على المستويات كافة.
من قضايا المستقبل:
ثمة معطيات عديدة، تدفعنا إلى القول أن التواصل الإنساني بكل صوره ومستوياته، من الضرورات القصوى في حياة الإنسان الفرد والجماعة، وهو مساحة حرية وتفاعل متبادل، ورسالة حوار وتعارف وأرضية تسامح وتعايش بين الثقافات والأفكار المختلفة..
لذلك فإن تطلعنا جميعا، ينبغي أن يتجه إلى ضرورة إرساء قواعد وأطر للتواصل المستمر بين مختلف التعبيرات والثقافات، واستكمال الشروط الضرورية لإطلاق فعل تواصلي شامل..
وفي منظورنا وتقديرنا، أن فعل التواصل المستديم، هو الذي يحرر الوعي الوطني والثقافي من كل التشوهات والأوهام التي تغذي حالات القطيعة والإقصاء..
ولا تواصل فعال ودينامي، بدون تسويد قيم الحرية والنقد والتسامح.. ففي كنف الحرية وثقافة والحوار والتسامح، تذوب الفروقات والاختلافات، وتتبلور وظيفتها الحضارية في إثراء المعرفة والواقع، وإنضاج خيارات عديدة للرقي والانطلاق..
وفي رحاب النقد البناء تنمو المعرفة، وتزدهر مواطن الإبداع، وتثرى مصادر التجديد والتطوير في الأمة والوطن.. من هنا فإن الإنصات الواعي والعميق لكل الآراء والأفكار والإبداعات، يجعل وعي الاختلاف وعيا جماليا كتنوع أغصان الشجرة..
ومهمة المنابر الإعلامية في هذا الصدد، احتضان الجهد الإبداعي والنقدي، وتعميق آفاقه ومتطلباته في المحيط الاجتماعي.. كما أن الوظيفة الجوهرية للقارئ والنخبة، هي أن تفتح عقولها وتوفر الاستعداد النفسي اللازم، للقبول بخطاب النقد والإبداع..
وهذا القبول لا يعني بأي حال من الأحوال، أن ننخرط في المضاربات الأيدلوجية والفكرية، بل يعني توفير الظروف الذاتية والموضوعية لترجمة المفردات الجديدة إلى حقائق شاخصة ووقائع راسخة..
ولا نعدو الصواب حين القول: أن هذه العملية بحاجة إلى تكريس قيم الحرية والعدالة في الفضاء الاجتماعي.. وذلك لأنه إذا توفرت الحريات العامة، توفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع، وبلورة كفاءات نخبته، وازدادت إبداعاته ومبادراته، وكل هذه الأمور من القضايا الحيوية لصناعة القوة في الوطن..
ويخطأ من يتصور أن الإقصاء والنفي والنبذ، هي القادرة على خلق المواطنة الصالحة وحالة الولاء إلى الوطن..
إننا نرى ومن خلال التجارب التاريخية العديدة، أن الحرية والشفافية وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي الكفيلة بتعميق حس المواطنة الصالحة.. فشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أتى من بيئات جغرافية متعددة، وأطر عقدية ومرجعيات فكرية وفلسفية متنوعة، ولكن الحرية بكل آلياتها ومجالاتها ومؤسساتها، وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي التي صهرت كل هذه التنوعات في إطار أمة جديدة وشعب متميز..
وحدها الحرية التي تعيد الاعتبار إلى الذات والوطن، وتعيد صياغة العلاقة بينهما، فتنتج وعيا وطنيا صادقا، يحفز هذا الوعي على الدفاع عن عزة الوطن وكرامة المواطنين.. فالاستقرار السياسي والمجتمعي يتطلب باستمرار تطوير نظام الشراكة والحرية على مختلف الصعد والمستويات، حتى يتسنى للجميع كل من موقعه خدمة وطنه وعزته..
وأن القواسم المشتركة المجردة بوحدها لا تصنع وحدة، وإنما هي بحاجة دائما إلى تنمية وحقائق وحدوية ومصالح متداخلة، حتى تمارس هذه القواسم المشتركة دورها ووظيفتها في إرساء دعائم الوحدة وتوطيد أركان التوافق..
لذلك فإن المطلوب، أن ننفتح على مساحات التنوع ونتواصل مع المختلفين من أجل استنبات مفاهيم وقيم جديدة، تزيد من فرص تقدمنا، وتحررنا من شبكة العجز والاستكانة، وتجعلنا نقتحم آفاقا جديدة، تحملنا على نسج علاقة جديدة مع مفاهيم الحرية والنقد والتواصل والوطن..
وعلى هدى هذه العلاقة الجديدة، وذات المضامين الحضارية والإنسانية، نخلق فضائنا النقدي، ونمارس تنوعنا وتعدديتنا، ونجسد حضورنا وشهودنا..
والنقد لا يعني بأي حال من الأحوال التفلت من القيم ومحاسن العادات والأعراف، وإنما يعني استخدام إرادتنا والتعامل مع راهننا بتحولاته وتطوراته بما ينسجم والمثل العليا والضمير والوجدان..
فالنقد المنضبط بضوابط الحكمة والمصلحة العليا، من وسائل التطور والتقدم.. لذلك ينبغي أن لا نخاف من النقد أو نرذله، وإنما من الضروري التعامل الفعال والإيجابي مع عمليات النقد عن طريق الآتي:
ثقافة جديدة:
1- من المؤكد أن تثمير النقد في عمليات التقدم الاجتماعي، بحاجة إلى ثقافة جديدة تدخل في النسيج الاجتماعي، قوامها قيم التسامح والحرية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.. فالنقد يتطور ويؤتي ثماره الإيجابية، حينما تسود ثقافة تسمح للجميع بممارسة حقائقهم وقناعاتهم، وتعطيهم حق التعبير عن آرائهم وأفكارهم.. فلا فعالية للنقد، بدون ثقافة تعتني بعملية الحوار وتنبذ كل خيارات الإقصاء والنبذ والعنف.. فبمقدار تواصلنا المعرفي وحوارنا الثقافي مع الآخرين، تتجلى فعالية النقد في الفضاء الاجتماعي..
حيوية اجتماعية:
2-لا يتطور النقد، ولا يعطي ثماره الإيجابية، إلا في فضاء اجتماعي يستوعب ضرورات النقد، ويوفر متطلبات استيعابه..
فالحيوية الاجتماعية، ووجود أطر ومؤسسات وقنوات لتداول الرأي وممارسة النقد والمراجعة والتقويم، كلها عوامل تساهم في توظيف عملية النقد والمراجعة في تقدم المجتمع ورقيه الحضاري..
لذلك فإن المطلوب من جميع الشرائح والتعبيرات الاجتماعية، أن تتحلى بسعة الصدر وحسن الظن والحكمة من أجل تثمير عملية النقد في البناء والعمران..
حوار النخب:
3- من البديهي القول: أن المشاكل في حد ذاتها لا تنشأ من وجود الاختلاف، ولا من وجود أنظمة للمصالح مختلفة، بل تنشأ من العجز عن إقامة نظام مشترك أو من تخريب هذا النظام من بعد إيجاده..
وحوار النخب ينطلق من الاعتراف بالآخر كما هو شريكا مختلفا مع احترام هذا الاختلاف وفهم أسبابه واعتباره حافزا على التكامل لا داعيا إلى الافتراق، وقدرة نفسية وعملية تتطلب رؤية الذات من موقع الآخر، وقدرة على فهم الآخر بلحاظ اعتباراته ومعاييره الخاصة..
فحوار النخب من الأطر الهامة، لاستيعاب عملية النقد والمرجعة، والانطلاق نحو تصحيح الأوضاع وتقويم الاعوجاج.. كما أن هذا الحوار من الخطوات الجوهرية التي تساهم في تأسيس نظام مشترك وصيغة فعالة وعملية للتنسيق والتعاون..
وجماع القول: إننا لا يمكن أن نمنع النقد والتفكير الحر، وأن أي جهد يبذل في سبيل منعهما، يدخل الجميع في متاهات ودهاليز، لا تفضي إلا إلى المزيد من التدهور والدخول في معارك هامشية، تشتت الطاقات، وتبعثر الجهود، وتكثف من حالات التردد وجلد الذات..
بينما المطلوب هو الإنصات الوعي لعملية النقد والتفكير الحر، واستيعاب القضايا الرئيسية المطروحة والمتداولة، وذلك لإحداث نقلة نوعية في مسيرة مجتمعنا ووطنا باتجاه أكثر حيوية وفعالية نحو التطلعات والطموحات المشروعة..
وجماع القول: إن إعادة الاعتبار إلى الانسان، هو المدخل الضروري لتحويل الإنسان من طاقة سلبية لا إبالية، إلى طاقة إيجابية – بناءه.. لذلك عمل الدكتور علي شريعتي في مشروعه الثقافي والاصلاحي، إلى إعادة الاعتبار إلى الانسان، وعمل على إزالة كل الوقائع التي تحول دون إنسانية الانسان.. وحينما يتمكن الانسان من إزالة كل ما يعيقه، سيتحول هذا الانسان إلى فاعل إيجابي في هذه الحياة..
ورؤية علي شريعتي في هذا السياق، قائمة على تحرير الانسان من كل ما يعيقه من عوامل نفسية وموضوعية واجتماعية وسياسية.. لأن الانسان المحرر من القيود هو القادر على العطاء والتميز وصناعة الفرادة والتميز..

 

محمد محفوظ
......................
الهوامش:
1- كتاب علي شريعتي الهجرة إلى الذات، جميل قاسم، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الثانية بيروت 2015 م، ص 34..
2- كتاب علي شريعتي الهجرة إلى الذات، جميل قاسم، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الثانية بيروت 2015 م، ص 38 -43..
3- كتاب علي شريعتي الهجرة إلى الذات، جميل قاسم، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الثانية بيروت 2015 م، ص 48.. 

 

في المثقف اليوم