أقلام فكرية

علي رسول الربيعي: السياق اللامتماثل والحوار بين التقاليد الفلسفية (1-2)

علي رسول الربيعيهناك مشكلات جوهرية وأسئلة فلسفية كبرى ذات طابع وجودي طرحها الإنسان دائمًا عن حقيقة الأشياء في العالم وكيف تتحرك وتتغير، وكيف نفسر الاساس النهائي لكل ما هو حقيقي وللكون نفسه؟ وصولا إلى السؤال الأنطولوجي الكلاسيكي: "لماذا الوجود وليس العدم؟"؛ وكذلك ما هو سر الذات البشرية، وكيف نخلق العالم الاجتماعي، وعن طبيعة الحرية والأخلاق؟ لقد واجهت المجتمعات البشرية كافة هذه المشاكل والأسئلة الأساس في تقاليدها الثقافية. وأطلق مضمون وطريقة النظر فيها مسارات متنوعة من الأنظمة العقلانية، إذا فهمنا العقلانية بتقديم الأسباب لدعم الرؤى التي تهدف إلى تفسير لكل من هذه الأسئلة.
مسار الخطاب الفلسفي
لقد أنشأت جميع الثقافات الكبيرة في العالم فلسفاتها، في أنماط وخصائص تطور مختلفة، وأنتجت جميعًا مقولات ومفاهيم لابد من الاعتراف بأنها فلسفية. إن استعمال مصطلح الفلسفة هنا- من منظور الشرق- بالمعنى الواسع، وفلسفة اليونان وفقًا لمعايير أضيق. هناك تصور يخلط بين أصول الفلسفة الأوروبية، التي قد تكمن جزئيًا في التقليد اليوناني، والفلسفة في العالم التي لها أصول متنوعة بقدر تعدد التقاليد الأساسية للفلسفة تقريبًا. وهناك أُفتراض لمسار خطيً للفلسفة يبدأ من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة اللاتينية في العصور الوسطى ومن هناك يصل إلى الفلسفة الأوروبية الحديثة؛ لكن مسار التاريخ الحقيقي أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير. لقد طُورت الفلسفة اليونانية لاحقًا من قبل الحضارة البيزنطية، وكانت الفلسفة العربية بدورها وريثة للفلسفة البيزنطية، وعلى وجه الخصوص تراثها الأرسطي. ودلالة على هذا التطوير للفلسفة اليونانية والبيزنطية هو ماحصل من إنشاء للغة فلسفية عربية بالمعنى الدقيق للكلمة.
فالفلسفة الأرسطية اللاتينية في باريس في القرن الثالث عشر، عن سبيل المثال، لها أصلها في النصوص اليونانية وتعليقاتها العربية، فقد استعمل الفلاسفة العرب النصوص اليونانية وعلقوا عليها. وكانت قرطبة استمرارًا للتقليد "الشرقي" بأصوله في بغداد أو سمرقند. لقد أنتج هذا فلسفة استلهمت إرثًا يونانيًا أعيد بناؤه بعمق من منظور سامي (منظور الحضارة العربية)، ثم انتقل إلى اللاتين والجرمانيين في أوروبا. وهنا يبرز اسم الفيلسوف ابن رشد إلى أصلًا ومرجعًا للنهضة الفلسفية الأوروبية في القرن الثالث عشر.
الفلسفة بين الأسطوري والعقلاني
أعطت الإنسانية طوال مراحل تطورها تعبيرًا لغويًا[1]عن الاستجابات العقلانية للمشاكل الأساسية مثل تلك المذكورة أعلاه. فلكل ثقافة، وفقًا لبول ريكور، "جوهر أخلاقي وأسطوري" أو "رؤية للعالم"[2] توفر إطارًا للتفسير الأنطولوجي والتوجيه الأخلاقي لأهم اللحظات في الوجود البشري. سوف تستمر نتيجة لهذه التداخلات والتأثيرات الثقافية بعض الأساطير في الخطابات الفلسفية الحديثة وحتى الوقت الحاضر. فلن تختفي الأساطير تمامًا طالما استمر بعضها في أن تكون منطقية، كما يرى إرنست بلوخ بشكل مقنع في عمله "مبدأ الأمل".[3]
لكن المشكلة، هنا، هي أن الفلسفة الأوربية قد خلطت بين السرد الأسطوري الخاص بأوربا وبين المحتوى العالمي المفترض للعقلانية الفلسفية المحضة. فهيجل، مثلا، يزعم أن "الروح الجرمانية هو روح العالم الجديد [Moderruty]، وتتمثل غايتها ونهايتها في تحقيق الحقيقة المطلقة."[4] لكنه فشل في ملاحظة أن هذه "الروح" هي إقليمية (مسيحية أوروبية وليس عربية أو طاوية أو هندوسية أو بوذية )، كما أنها ليست عالميًة، ولا يعكس محتواها المشكلات الخاصة بالثقافات الأخرى. لهذا، لا يشكل أدعاءه خطابًا فلسفيًا عالميًا، ولكنه يعكس خصائص السرد الأسطوري الخاص بالثقافة الأوربية. فماذا يعني الحديث عن "روح المسيحية" من منظور عقلاني فلسفي شامل؟ لماذا لا نتحدث إذن عن "روح إسلامية أو طاوية" أو بوذية أو كونفوشيوسية؟ فهذه "الروح" عنصر من مكونات السرد الأسطوري الذي يحمل معنى لأولئك الذين يعيشون في آفاق ثقافة إقليمية، ولكن لا ينسبون إليها محتوىً فلسفيًا عقلانيًا يتمتع بصلاحية عالمية قائمة على التجربة، كما تدعي الفلسفة الأوروبية الحديثة لنفسها.
لقد "لوثت" هذه العناصر الأسطورية حتى خطابات الفلاسفة العظماء. يجادل إيمانويل كانط،عن سبيل المثال، " في "ديالكتيك العقل العملي الخالص" من" نقد العقل العملي" لصالح "خلود الروح كطريقة لحل مسألة "الخير الأسمى". لكن مفاهيم "الروح" و "الخلود" ليس الأً استمرارًا للعناصر الأسطورية ذات الأصل الهندي في الفكر اليوناني والتي تغلغلت لاحقًا في كل الفكر الروماني والمسيحي في العصور الوسطى ومن ثم في الأوروبي الحديث. إن البراهين الفلسفية المفترضة المقدمة في هذه الحالات هي حشو وليست تفسيرية عقلانية على أساس الحقائق التجريبية. يوضح لنا هذا الحضور غير المعترف به للعناصر الأسطورية في أعمق الفلسفات الأوربية.
إن أحد أهم العوائق أمام حوار فلسفي عالمي هو الرأي السائد بين الفلاسفة والمرؤخين في انحاء أوربا وامريكا الشمالية على اختزال النشاط الفلسفي للبشرية في ذلك الذي ظهر لأول مرة في اليونان وليس في الشرق، ومثالا على ذلك رأيً هوسرل[5] الذي كرره هيدجرآخرين: إن الفلسفة هي الحركة المستمرة لتفسير الذات، والتي بدأت كأول اختراق للفلسفة في تاريخ البشرية مع فجر الفلسفة اليونانية في مرحلتها الأولى في تفسيرها الأول من خلال المفهوم المعرفي الأول لما هو الكون. وحتى ياسبرز لم يدافع الأً عن وجود ثلاثة تقاليد فلسفية كبيرة: تلك الخاصة بالصين والهند واليونان. ان هذه الأراء ساذجة للغاية، وربما كان هيجل أحسن حالًا منهم نسبيًا في كتابته عن تاريخ الفلسفة رغم ما يعتري تاريخه عن فلسفة الشرق من أختزال وضعف الأطلاع. أنا مقتنع بأن التطور المستقبلي لفلسفة العالم سيتعرض للخطر إذا لم نوضح هذه القضايا من خلال حوار معاصر بين التقاليد الفلسفية في العالم وليس الغربية فقط.
الهيمنة الأوربية الحديثة ومطالب بالعالمية
انتصرت أوروبا في المحيط الأطلسي ابتداءً من عام 1492م الذي أصبح المركز الجيوسياسي الجديد للهيمنة في العالم، ليحل محل البحر الأبيض المتوسط. واصبح هذا أساس الإمبراطوريات الاستعمارية الجديدة التي تركزت في القارة الأمريكية بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر تقريبًا، حيث مكن هذا بدوره الحضارة الرأسمالية من التطور. وأصبحت، في هذا السياق، الفلسفة الجرمانية اللاتينية في العصور الوسطى جوهر الفلسفة الأوروبية الحديثة التي تداخلت بدورها بشكل لا ينفصم عن مطالب هذه الحضارة الرأسمالية السياسية والاقتصادية بالهيمنة. يتضح الأصل الفلسفي المحدد لنظرة الهيمنة الاستعمارية الجديدة من نقد بارتولومي دي لاس (Bartolome de Las Casas) عام 1514 م، قبل وقت طويل من كتاب ديكارت "خطاب في المنهج"، الذي كتبه في أمستردام عام 1637م. وهنا نشير الى أن الفلسفة الأوروبية كانت حتى ذلك الحين فردية وإقليمية ولم تدع بطابع عالمي بعد. لقد اصبحت الفلسفة الأوربية الحديثة مُهيمنة بعد أن فرضت نفوذها على ثقافة المجتمعات المستعمرة. وهذا مافتح لها امكان التطور بطريقة فريدة، على عكس أي فلسفة أخرى في العالم خلال الفترة التاريخية نفسها. وأريد أن أؤكد هنا على أهمية استكشاف التفسيرات المحتملة لهذا التطور ومطالب العالمية.
لقد فرض التوسع الاستعماري الحديث بعد فتح المحيط الأطلسي من قبل البرتغال والتمدد إلى غرب إفريقيا، ثم باتجاه المحيط الهندي (الذي قفز فوق "الجدار" المحيط بالإمبراطورية العثمانية)، وكذلك من قبل إسبانيا بإتجاه البحر الكاريبي والقارة الأمريكية الحصارعلى العالم الإسلامي من نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، مما شل حضارته، وبالتالي تطوره الفلسفي. لم تكن الفلسفة العربية الكلاسيكية قادرة على النجاة من أزمة الخلافة في بغداد و تأثير ما أطلق عليه طرابيشي[6] بـ" تسنين العقيدة"، ومن ثم تدهورها بشكل نهائي بعد ذلك. وبالمثل دمرت الإمبراطورية المغولية إمكانية حدوث تطورات جديدة في الفلسفات البوذية وفيدانتا خلال القرن السادس عشر. وكذلك تنامى في الصين الشعور بثقل فشلها في استكمال الثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر، وتوقفت بالفعل عن إنتاج فلسفة جديدة. ودمر الغزو الاسباني لأمريكا اللاتينية جميع المصادر الفكرية والثقافية الأكثر بروزًا في الثقافات الأمريكية الهندية الكبيرة؛ ولم تكن المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في عصر الباروك قادرة على تجاوز إنجازات سكولاستيكس عصر النهضة في القرن السادس عشر.
وضعت المركزية المهيمنة لشمال أوروبا كقوة عسكرية واقتصادية وسياسية وثقافية الأساس لتطوير فلسفتها من نهاية العصور الوسطى، أيً، من القرن الخامس عشر مع نيكولا دي كوسا (Nicolas de Cusa ) (1401-1464 م) والنهضة الإيطالية، التي تعود أحد أهم أصولها الى تأثير البيزنطيين الذين طردهم العثمانيون من القسطنطينية عام 1453م. وقد أتاح ذلك للفلسفة الأوربية أن تتطور في مواجهة أزمة الفلسفات الإقليمية الكبرى الأخرى، فرفعت خصوصيتها الفلسفية إلى مطالبة عالمية.
لقد وضعت الفلسفة الأوروبية الحديثة نفسها بطريقة تبدو وكأنها فلسفة عالمية، سواء في مدعياتها أو في نظر ثقافة تلك المجتمعات المُستعمرة الراكعة والمصاب بالشلل الفلسفي. لقد كانت تقع أوربا في المركز، بالنسبة للتحولات الحديثة، جغرافيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وبذلك اصبحت قادرة على التلاعب بالمعرفة والمعلومات التي انتزاعتها من جميع الثقافات البلدان التي استعمرت. ارتبطت هذه الثقافات بذاك المركز على طول رابط يمتد بين الجنوب المُستعمر والشمال الأوروبي، لكنها منفصلة عن بعضها البعض. فلم تقم أي علاقات أو تحالفات ممكنة بين مجتمعات عالم الجنوب نفسه حتى الآن. تطور هذا الرابط خلال عصر الحداثة الأوروبية، مما أدى إلى ازدراء متزايد لهويات أهل الجنوب وإسهاماتهم الثقافية، وكذلك الى نسيان أهل الجنوب أنفسهم لكثير من تقاليدهم الفكرية والخلط بين مستويات التطور العالية التي أنتجتها الثورة الصناعية في أوروبا والحقائق العالمية المفترضة في خطابها على مستوى المضامين والمناهج. إن هذا الوضع التاريخي هو ما مكن هيجل أن يكتب في ( محاضرات في فلسفة التاريخ) :" ينتقل التاريخ العالمي من الشرق إلى الغرب. وأن أوروبا هي نهاية التاريخ العالمي".[7] و"البحر الأبيض المتوسط هو محور التاريخ العالمي".[8]
إن المركزية الأوروبية، إذن، في جوهرها ادعاء الشمولية لفلسفة معينة. يمكننا أن نفترض أن جميع الثقافات لديها ميول مركزية-عرقية، لكن الثقافة الأوروبية الحديثة هي الأولى التي أصبحت نزعتها المركزية- العرقية في افقها الأقليمي معولمة نتيجة لامتدادها وتزامنها مع النظام العالمي الصاعد الذي تقوده وتهيمن عليه، كما يرى إيمانويل والرشتاين.[9] لكن يسقط هذا الادعاء الشامل عندما يصبح فلاسفة التقاليد الفلسفية والثقافية الأخرى واعين بتاريخهم الفلسفي وآثاره الأساسية.

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ
........................
[1] حول اللغة والتجريد أنظر حسام الألوسي، بواكير الفلسفة قبل طاليس أو من الميثولوجيا الى الفلسفة عند اليونان،بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وكذلك الدار الدولية للأستثمارات الثقافية 2001
[2] Paul Ricoeur, "Universal Civilization and National Cultures," in History and Truth (Paris: Seuil, 1964), pp. 274-288
[3] Ernst Bloch, The Principle of Hope MIT Press; 1995.
[4] Hegel, The Philosophy of History (New York: Colonial Press, 1900), p. 341.
[5] E. Husserl, Philosophy as Mankind's Self-Reflection; the Self-Realization of Reason, in The Crisis of European Sciences (Evanston, IL: North-western University Press, 1970), pp. 338-339.
[6] طرابيشي، جورج، مصائر الفلسفة بين المسيحية والاسلام، دار الساقي، 1998
[7] Hegel, Lectures on the Philosophy of World History, Introduction: Reason in History (Cambridge: Cambridge University Press, 1975), p. 197
[8] Hegel, Reason, p. 171.
[9] I. Wallerstein, The Modern World-System (New York: Academic Press, 1980-1989), vols. 1-3.

في المثقف اليوم