أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: هفوات المفكرين.. هل يجب إلغاء كانط؟

3410 كانظيتسائل البعض عن كيفية رسم خط للمفكرين التاريخيين. كيف يجب ان نقيّم مفكري الماضي المثيرين للجدل؟ هذه القضية أثارت مؤخرا العديد من الاهتمام. احدى الصعوبات هي اننا نميل للحكم على الناس في الماضي طبقا لرؤانا الحالية للأخلاق، لكن هذا احيانا يكون مثيرا للإشكال، وسنحتاج للحذر من إلغاء الناس بشكل خاطئ.
مثال جيد على هذا هو الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط (1724-1804) الذي نال الاحترام بسبب مساهاماته الأساسية في نظرية الاخلاق وموضوعات اخرى. في الحقيقة، نظريته في الاخلاق المطلقة جعلته من بين أعظم فلاسفة الاخلاق في كل العصور. لذا من المدهش لو علمنا ان كانط كتب ايضا ما يوصف اليوم بغير الأخلاقي كما لاحظ بعض الاكاديميون اليوم. فمثلا، كتب كانط عن اعتقاده بتفوق الرجل الاوربي الابيض على الأجناس الاخرى (حول مختلف الاجناس الانسانية،1777). معظم الناس اليوم يجدون ان هذه الرؤية مرفوضة لأسباب لا تحتاج الى توضيح. السؤال الذي يتطلب الاجابة في ضوء هذه الادّعاءات هو، أي المعايير يجب ان تكون لدينا لمفكري الماضي؟
هناك بعض الأجوبة الشائعة الشديدة التبسيط، والحقيقة هي ان الجواب هو اكثر صعوبة مما يتصور البعض.
تمييز هام
عندما يُواجه الناس ببعض الادّعاءات المثيرة للإشكال،فهم عادة يركزون على الفرد الذي ادّعى بها،وعلى مظاهر الفرد ذاته. هذا يجعل هناك معنى طالما هي تساعدنا في توضيح ما قام به، والحوافز التي كانت لديه. ولكن التركيز على الفرد ليس هو الطريقة الصحيحة للتعامل مع المفكرين في الماضي، لأن هناك حاجة للنظر بما هو أبعد من حياتهم الشخصية .
ما نحتاج عمله في هذه المسألة هو ايجاد تمييز بين الفرد وافكاره. خاصة، هناك فرق بين الافراد والافكار او النظريات التي كُتبت او وُثقت في أعمالهم. فمثلا، الفرد يوجد في مكان وزمان معينين ، لكن الافكار هي لازمنية واكثر عمومية . هذا التمييز يُعد هاما لأن ما يهمنا بالأساس هو مساهمات الفرد التي يصنعها بافكاره ونظرياته، وليس الفرد او الشخص ذاته. مفكرون مثل كانط يتم تذكّرهم بالمقام الاول بسبب الكيفية التي ساهمت بها نظرياتهم في تقدّم الفهم الانساني، وليس بسبب الكيفية التي عاشوا بها. هذه النقطة هامة بسبب حقيقة ان الفرد الذي يقول شيء ما خاطئ أخلاقيا لا يبيّن بالضرورة ان نظريته مرفوضة ويجب إستبعادها. نحن يجب ان نسمح لاولئك الناس المخطئين ظاهريا حول شيء ما ان يكونوا صائبين في مسائل اخرى.
احدى الطرق لتوضيح هذه المسألة هي النظر الى البرت اينشتاين، حيث لوحظ مؤخرا من قبل بيتر درير Peter Dreier(هل كان البرت اينشتاين عنصريا؟، The American prospect،2018) ان اينشتاين في وقت ما آمن بافكار غير مقبولة وفق معايير اليوم، في كتاباته الخاصة هو طرح ادّعاءات غير ملائمة حول جماعات معينة. رغم انه من المحزن ان يأتي هذا من عالم شهير وكائن انساني، لكن هذا لايبطل نظريته العامة في النسبية، ولا يعني اننا يجب ان نتوقف عن تدريسها. ان اتجاها مشابها يمكن ان يساعدنا في تقييم فلاسفة مثل كانط. نحن يجب ان نسمح بوجود فرق بين البيانات الفردية للشخص ونظريته الاخلاقية. ما اذا كانت نظريته الاخلاقية صحيحة او ذات قيمة ذلك لا يعتمد على قوله اشياءً في حياته قد يرى فيها البعض عيبا اخلاقيا. على عكس ذلك، ما اذا كانت النظرية صحيحة هو شيء ما يُقيّم اعتمادا على الادّعاءات التي تطرحها النظرية ذاتها، ومدى انسجامها مع الدليل.
أي معايير
حالما نجري هذا التمييز بين الفلاسفة كأفراد وبين نظرياتهم، علينا ان ننظر بالمعيار الذي يجب ان نستعمله في عمل تقييماتنا. عند تقييم أي من مفكري الماضي، يجب ان نبدأ بالنظر في النظريات التي قدّموها ومن ثم نحاول التعامل مع أي بيانات إشكالية طرحوها. أحد المعايير التي يجب ان نستعملها تتعلق بما اذا كانت البيانات الإشكالية مركزية في النظرية. نحن نستطيع الاعتقاد بان هناك نطاقا من الحالات الممكنة للنظر بها هنا. لو ان شخصا ما يقول شيئا مرفوضا بطريقة غير متصلة بنظريته – كما في اينشتاين – عندئذ فان ذلك البيان لايعني ان النظرية ذاتها ذات إشكالية. في هذه الحالة، يمكننا اعتبار الادّعاء السيء عرضيا للنظرية. بعد ذلك، لو ان شخصا ما يقول ان شيئا ما مرفوض وهو هامشي لنظريته، فان هذا مؤسف، ولكن هذا ايضا يجب ان لايقلقنا حول صحة وقيمة النظرية في نطاقها الأوسع. في حالة ثالثة، لو ان شخصا ما يقول شيئا مرفوضا وهو مرتبط مركزيا بنظريته – كما لو ان شخصا ما يدافع عن علم تحسين النسل، مثلا – عندئذ يكون لدينا سبب للاعتقاد ان النظرية ذاتها اشكالية ويجب رفضها. هذا الاتجاه سوف يجيز لنا نبذ الرؤى التي هي اشكالية "مركزيا"، بينما لايزال يترك مساحة للنقاش في انواع اخرى من الحالات. ما يجب النظر فيه عند تقييم المرء للنظرية هو بياناتها المركزية. تقرير هذا يتطلب دراسة دقيقة لكل من محتوى النظرية وطبيعة البيان في السؤال، وكيفية الترابط بينهما . في كل هذا نحن نريد تجنب الإلغاء المرتكز على تقييمات سريعة بدون دراسة رؤى واسعة،كما يميل في ذلك الالغائيون .
هذا هو اتجاه العديد من الاكاديميين الذين يتعاملون مع افكار كانط ولكنهم غير سعداء ببياناته الاشكالية (انظر مثلا كانط كان عنصريا:الآن ماذا؟، ديفد مكاب David Mccabe،اخبار APA،2019). القضية هي ليس ما اذا كان كانط قال شيئا عنصريا – وانما ما اذا كانت هذه العنصرية لعبت دورا في نظريته الاخلاقية الهامة. العديد اعتقدوا ان ادّعاءات كانط المؤسفة لا يجب النظر اليها بطريقة تؤثر على المظاهر المركزية لنظريته الأخلاقية عندما تُفهم بعموميتها. فمثلا؟، المبدأ المركزي الاخلاقي لكانط الذي تعتمد عليه كامل نظريته هو اننا يجب " دائما ان نعامل الناس كغاية وليس كوسيلة". هذا الاقتراح هو من العمومية ما يكفي لتطبيقه على أي شخص في الارض، ولايزال يحتفظ بقيمته رغم البيانات الاخرى لكانط – ورغم انه ربما لايطبق هذا المبدأ ذاته بوضوح في تلك الحالات. لهذا، نرى اننا يجب ان نستمر بالاعتراف بأهمية مساهمات كانط الواسعة للفلسفة الاخلاقية، حتى عندما نلاحظ مشاكل في بعض الأشياء التي قالها. (اذا كنت غير مقتنعا، ربما من المفيد ملاحظة كانط في عمله المهني اللاحق طرح بيانات تقترح انه غيّر رأيه حول افكاره المبكرة المتعلقة بالعنصرية، وكان يتلمس طريقه نحو رؤى اكثر حداثة في هذه القضية (انظر مثلا "نحو سلام دائم"،1795).
إلغاء الماضي
هذا الاتجاه ايضا سوف يكون مفيدا في حالات اخرى نقرأ عنها بانتظام. في ضوء الاختلافات في مواقفنا تجاه الماضي، يجب ان لا يكون غريبا اننا سنجد اناسا تاريخيين يطرحون بيانات لانتفق معها. ما يهم ليس حدوث هذه البيانات وحدها، وانما مركزيتها للمساهمات التي حققها الفرد للمجتمع . معالجة القضية بهذه الطريقة سوف يسمح لنا بترك مساحة للنقاش متى ما ظهرت الحاجة له، بينما يساعدنا ايضا في تجنب انواع الرفض الناتج عن الاعتياد المألوف لكامل عمل الفرد وهو ما اصبح شائعا جدا ضمن ثقافة الإلغاء.
الصعوبة الحالية تبرز لأن الماضي مؤلف من افراد ناقصين، مثل كل الناس، وان الكيفية التي يستجيب بها الناس لظروفهم التاريخية يمكن ان تكون معقدة. عند التفكير في المفكرين التاريخيين مثل كانط، نحتاج للانشغال بتلك التعقيدية، بما في ذلك العلاقات المعقدة بين ميول الافراد والكثير من النظريات اللازمنية التي تركوها للأجيال اللاحقة. يجب ان لا نبسّط القضايا بتبنّي موقف رافض وصارم تجاه كيفية التعامل مع مفكري الماضي. ما نحتاجه هو العناية والتحفظ في التعامل مع كل من الجيد والسيء في تاريخ الفلسفة.

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم