أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: ثيولوجيا توما الأكويني.. التحوّل من افلاطون الى ارسطو

يستخدم الثيولوجي توما الأكويني (1225-1274) الفلسفة في محاولة لإعطاء توضيح عقلاني للعقائد  التي أماطت اللثام عن المعرفة او مسائل الايمان. ورغم ان الخلاصة اللاهوتية هي نوع من عمل الفلسفة، لكن هدفها الرئيسي هو عمل ثيولوجي. هذا الفرق كان هاما لتوما الاكويني وأتباعه المدرسيين الذين آمنوا ان الثيولوجي والفلسفة انتهجتا مسارين مختلفين. الثيولوجي يهتم بالمعرفة التي كُشفت من جانب الله وان الانسان يجب ان يقبل بها حول الايمان. الفلسفة على الأقل كما عُرّفت من جانب ارسطو، تتعلق بالمعرفة التي يكتسبها الانسان عبر التجربة الحسية واستعمال النور الطبيعي للعقل. بكلمة اخرى، الفلسفة تحاول الوصول لمبادئ عامة من خلال النظر بما يتم تصوره بواسطة الحواس ومن ثم تُقيّم عقلانيا. وبينما بعض الموضوعات مثل معرفة وجود الله هي مشتركة لدى كل من الثيولوجي والفلسفة، لكن الثيولوجي يضم ايضا موضوعات لايستطيع العقل فهمها مثل لغز الثالوث المقدس.

وبإتّباع قول ارسطو الشهير بان "كل الناس بطبيعتهم يرغبون بالمعرفة"،فان الاكويني يؤمن بان الناس طبيعيا يبحثون عن المعرفة التي تشكّل سعادتهم وهدفهم الحقيقي، أي، رؤية اللة. وبينما للعقل والفلسفة دورهما في اكتساب المعرفة، لكنهما بالأصل لهما قدرة محدودة على فهم كل الحقائق. بدلا من ذلك، المعرفة الفلسفية هي فرع من المعرفة الثيولوجية: كل الثيولوجيين فلاسفة ولكن ليس كل الفلاسفة ثيولوجيين. حقيقة ان المعرفة الثيولوجية ترتكز على الحقائق المستوحاة وعلى الايمان بدلا من التجارب الحسية وممارسة العقل، لايعني ان المعرفة الثيولوجية أدنى منزلة من المعرفة الفلسفية، بل بالعكس، المعرفة الثيولوجية تتفوّق على المعرفة الفلسفية ليس فقط بمقدار ما تتعامل به من قضايا في غاية الأهمية وانما ايضا بمقدار كونها وحدها تستطيع حقا ان تقدم لنا معرفة كاملة بتلك القضايا.

أهمية الأسباب الأربعة لارسطو

يتبنّى الأكويني عقيدة ارسطو في الأسباب الاربعة (انظر الفصل الثاني، فيزياء ارسطو ص47). الاسباب الاربعة هي 1- السبب المادي، 2- السبب الشكلي او الصوري، 3- السبب الفعّال، 4- السبب النهائي.

السبب المادي كما يشير اسمه يتعلق بمادة العالم. المادة هي احتمالية، اي،ما يمكن ان يصبح عليه الشيء. السبب الشكلي هو الشكل او النموذج الذي يحكم شيء معين، او النوع الذي ينتمي اليه. السبب الشكلي يمكن ان يُسمى ايضا جوهر الشيء. فمثلا، السبب الشكلي لإنسان معين هو انسانيته، أي جوهر ما تعنيه كلمة انسان. الله هو الشيء الوحيد الذي يشتمل على حقيقة خالصة ووجود خالص،ولهذا فان الله هو السبب الشكلي الخالص الوحيد. السبب الفعال هو ما نفهمه عادة بكلمة سبب ويشير الى شيء ما ذو تأثير. السبب النهائي هو الهدف او الغرض الذي يتجه نحوه الشيء.

كل واحد من هذه الأسباب الأربعة اُعطي تطبيقا خاصا في فكر الاكويني. مفهوم السبب المادي له دور حاسم في رؤيته عن كيفية اكتساب الانسان للمعرفة عن العالم الخارجي وايضا يبرز في براهينه على وجود الله. ان مفهوم السبب الشكلي هو ضروري لنظريته في المعرفة وطبيعة الانسان ولكن ايضا يحدد تصوره لله، الذي يراه الاكويني حقيقة تامة بدون احتمال. مفهوم السبب الفعال يظهر في نظريته في المعرفة حول العالم الفيزيقي ولكن ايضا يوضح الفعل الانساني الذي يُوجّه بالرغبة. مفهوم السبب النهائي يوضح طبيعة الرغبة ذاتها التي تكافح بطبيعتها لإنجاز هدفها في النظر الى الجوهر الالهي.

الوجود وتفوّقه على الجوهر

أحدث الاكويني ثورة بعد الف سنة من التفكير المسيحي برفضه لافلاطون وتفضيله لارسطو. افلاطون اكّد ان الحقيقة النهائية تتألف من الجوهر، بينما ارسطو اعتقد ان الوجود هو الاساس. بالنسبة لافلاطون، يرى ان العالم الذي حولنا والذي نتصوره بأحاسيسنا لا يحتوي على شي سوى الاشياء الزائلة والمتغيرة. اعتقد افلاطون ان ملاحظاتنا للعالم لكي تُعد معرفة حقيقية وليست فقط دليل مبني على التصور الذاتي،فلابد لأذهاننا من تحقيق قفزة مفاهيمية من الحالات الفردية للاشياء الى الافكار العامة. هو استنتج انه يجب ان يكون هناك شيء دائم يكمن خلف الوجودات الفردية ويوحّدها، هذا الشيء أشار اليه "بالجوهر".

طبقا لافلاطون،الوجود، او العالم اليومي للاشياء مثل المنضدة او الكرسي او الكلب، بطبيعتها هي أدنى من الجوهر. مفكرو الكنيسة الأوائل رأوا في افكار افلاطون تماهي لتقسيمهم للكون الى وجود يومي لعالم مادي فاسد وغير تام و عالم الروح السماوي التام . الاكويني يتبع ارسطو في الاستنتاج بان نظرية افلاطون ضعيفة وناقصة، جزئيا لكونها غير قادرة على تفسير أصل الوجود وكذلك لأنها ترفض الوجود وبشكل لامقبول. الانجيل المقدس يؤكد انه بعد كل يوم من الأيام الستة للخلق، رأى الله ان ثمار عمله في تلك الايام كانت "جيدة" وحتى "جيدة جدا" . كذلك،عندما يسأل موسى الله كيف هو يشير الى ذاته، يجيب الله، "انا الذي انا" I am that I am،او انا الواحد الموجود ،وبهذا يساوي نفسه بالوجود. بكلمة اخرى، الله هو وجود خالص او الوجود ذاته. يجادل الأكويني ان هدف الانسان مرتبط اساسا في تطوير ذاته نحو الوجود، وليس في محاولة الهروب منه.

في الرؤية التقليدية للكنيسة التي كانت السائدة قبل الاكويني، كان الفرق بين الله ومخلوقاته فريدا، لأن الوجود كان شيئا بذاته يفصلنا عن الله. في رؤية الاكويني، ان الفرق بين الله ومخلوقاته هو بالمقدار او الدرجة، ونحن منفصلون عن الله بمقدار ما لا نمتلك وجودا بنفس مقدار وجوده هو . قبل الاكويني اعتقد الفكر التقليدي للكنيسة بان الوجود كان العائق الرئيسي لبلوغ مصيرنا الروحي، اما الاكويني اعتقد ان مصيرنا الروحي يكمن بالضبط في ترسيخ وجودنا.

 ***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم