أقلام فكرية

مصعب قاسم عزاوي: الليبرالية المستحدثة - Neoliberalism

من الناحية المنهجية فإن مصطلح الليبرالية الجديدة Neoliberalism هو تسمية منمقة لنمط الرأسمالية الوحشية المعولمة بشكلها الذي تم تبنيه في مرحلة صعود رونالد ريغان ومارغريت تاتشر في الولايات المتحدة وبريطانيا على الترتيب في ثمانينيات القرن المنصرم، وبشكل توازى مع أفول الاتحاد السوفيتي كنموذج اقتصادي بديل يحمل في طياته احتمالات للعدالة الاجتماعية في مقايضة مع حرية التعبير المغيبة كليانياً فيه. وهو الواقع الذي سمح بانفلات الفكر الرأسمالي بشكله المتسيد آنذاك من كل عقال، وتطفره إلى نموذج بربري وحشي يتم تحويل كل أحياز النشاط الإنساني في ماكينته إلى نموذج من الغابة المتوحشة التي البقاء فيها حصراً للأكثر فتكاً وبأساً، وليس فيها أي اعتبار لما هو اجتماعي أو جمعي بحسب تعبير رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر الشهير «بعدم وجود أي شيء يدعى مجتمع، وأن الحقيقة المطلقة هي وجود أفراد أحرار فقط»، وهي الحرية التي تم إعادة تعريفها وفق المنظار الوحشي المستجد لتصبح «حرية الإنسان في استهلاك ما يشاء مما يتم عرضه في اقتصاد السوق»، وهو الاقتصاد الذي ضالته الأولى والوحيدة هو تحقيق الربح السريع بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى أو خسائر جانبية لا بد من حدوثها، حتى لو كانت حيوات القليل أو الكثير من البشر والمجتمعات بأسرها.

ومن الناحية العيانية المشخصة فإن هناك جملة من المفاعيل الأكثر بروزاً لتبني ذلك النهج الوحشي في فهم الرأسمالية يمكن النظر إليها من زاويتين، الأولى سياسية، والثانية اقتصادية، وكلاهما مرتبطتان، وتكاد دائماً أن تعبر إحداهما عن الأخرى. فمن الناحية السياسية، فإن تصعد الليبرالية الجديدة، ترافق مع ذلك الشمق السياسي في الغرب عقب أفول الاتحاد السوفيتي الذي ترك القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة ومن لف لفها من أذناب وأتباع، بمثابة اللاعب السياسي الأوحد على الساحة العالمية، والذي ليس هناك من يستطيع التصدي لغلوائه أو حتى المجاهرة بعدم موافقته عليها. وهو ما أفصح عن نفسه من خلال تعملق حلف شمال الأطلسي، وتمدده شرقاً وصولاً إلى تخوم دول الاتحاد السوفيتي السابق، عبر ضم العديد من دول حلف وارسو إليه، وفي انفلات تلك القوة الشمشونية للحلف من كل عقال منعها سابقاً من تبني نهج تحقيق المآرب السياسية بالقوة التدميرية المحضة، ودون الحاجة للتفكر بأي أقنية أخرى لتحقيقها، وخاصة تلك التي تقع في حيز الدبلوماسية وما كان على شاكلتها، وهي الوسائل التي تقتضي التفاوض، والمقايضة، وتقديم التنازلات من الأطراف المتفاوضة لأجل تعزيز فرص الوصول إلى حل وسط، وهو الحاصل الذي لم يعد هناك حاجة للسعي إليه، في ضوء إمكانية تخليقه بالقوة العسكرية التدميرية التي لم تعرف البشرية سابقاً لها في كمها ونوعها.

ويمكن تلمس ذلك الواقع الأشوه بشكل عياني مشخص في صورة التهشيم المريع الذي حل بالعراق شعباً ومجتمعاً عقب غزو نظام صدام حسين للعراق غالباً بعد سوء تأويله لما بدى له بأنه ضوء أخضر من الإدارة الأمريكية ممثلة بالسفيرة الأمريكية في العراق قبيل إطلاق العنان لقواته الغازية ببضعة أيام، وهو الغزو الذي أعاد العراق إلى مرحلة أدنى من العصور الوسطى وأقرب إلى العصر الحجري، بعد أن كان في مصاف الدول المتقدمة بالحد الأدنى في الميدان الصحي، وهو ما يمكن تلمسه بالنظر إلى معدلات وفيات الأطفال فيه في السنين القليلة بعد كارثة تهشيم العراق في حرب عاصفة الصحراء في العام 1991 جراء سوء التغذية، وتدني الرعاية الصحية الأولية بشكل مهول بالتوازي مع المعدلات المرعبة لمختلف أشكال السرطانات التي أصبحت حالاً يومياً مستعصياً على العلاج لكل مستويات وطبقات المجتمع العراقي حتى تلك التي لم يمسها أذى فعلي في قمة هرم الدولة الأمنية الاستبدادية لنظام صدام حسين الذي تُرك في سدة الحكم عن سبق إصرار وتخطيط إرادي وترصد من قبل أباطرة غزوة عاصفة الصحراء للقيام بواجبه الوظيفي آنذاك في الإيغال في تهشيم ما تبقى من نسيج اجتماعي للمجتمع العراقي، ووأد أي إمكانية فيه لانتفاضة شعبية يحتمل أن تفضي إلى بديل لا يلائم مخططات وإرادة الغزاة بشكل مطلق.

وهو واقع انفلات القوة العسكرية الغاشمة لحلف شمال الأطلسي الذي يعني فعلياً الولايات المتحدة ومن لف لفها من زبانية ومرتزقة ووكلاء ونواطير، أصبح واقعاً صارخاً، لا يتحرج في إخفاء هويته المارقة على كل ما قد كان ينظر إليه بأنه ورقة التوت التي لا بد للبشر المتحضرين ارتداؤها في الحيز السياسي، في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والمتمثلة أساساً في الإذعان اللفظي كحد أدنى لما يتم إجماله بالشرعية الدولية، والقانون الدولي، وما يرتبط به من فعاليات للأمم المتحدة، والتي أصبحت شبه معطلة لا حول لها ولا قوة، في مرحلة الليبرالية المستحدثة التي أصبحت تنظر إليها بازدراء غير مضمر، وتجاهل شامل لها في حال عدم توافق رؤاها مع رؤى الأقوياء، صناع القرار السياسي والعسكري في حقبة الليبرالية الجديدة بشكلها الوحشي المعولم.

وبشكل أكثر تبئيراً، فقد رافق صعود الليبرالية الجديدة تصعد عقيدة جديدة في الحيز السياسي تتمثل في اعتبار التهديد بالتهشيم العسكري بالقوة التدميرية الفائقة لحلف شمال الأطلسي الأداة السياسية الأولى لتحقيق كل الأهداف والمخططات والمشاريع. وهو التعريف الذي أصبح بناء عليه يُنظر إلى حلف شمال الأطلسي بمثابة الشرطي الكوني المستعد دائماً للتدخل أينما اقتضت الضرورة، بكل كينونته الجلمودية لضمان ديمومة سيطرة الشمال الغني على مجتمعات الجنوب المفقر، ووأد أي احتمالات لتخلخل في تلك الهيمنة من الناحية السياسية، بالإضافة إلى توطيد حال التوازن المختل في الميدان السياسي الحيوي والاقتصادي، الذي ينظر إلى موقع المجتمعات المفقرة المنهوبة في دول الجنوب محصوراً في حيز كونها سوق تصريف مفتوحة على أعنتها لنتاج شركات دول الأقوياء العابرة للقارات، ومورداً شبه مجاني للموارد الأولية، ونبعاً لا ينضب لقوة العمل الرخيصة التي لا يسندها أي قوانين لحمايتها من الاستغلال الجائر.

وفي الحيز الاقتصادي، فإن تغول نمط الليبرالية الجديدة أفصح عن نفسه من خلال تصعد وتسيد المؤسسات الإقراضية والمالية العالمية لتحقيق وتوطيد رؤية الليبرالية الجديدة الخاصة  لنمط الإنتاج الرأسمالي بكونه غابة وحشية الكل فيها إما قاتل أو مقتول يتربع على قمة عرشها أباطرة الشركات العابرة للقارات بقدراتها الاحتكارية الفائقة التي تترفع عن كل قوانين الرأسمالية الكلاسيكية المتعلقة بحرية العرض و الطلب، وتستبدل ذلك بما قد يرقى إلى نموذج احتكاري وحشي تسيطر فيه بشكل شبه مطلق على كل موارد وأسواق تصريف الكرة الأرضية، وبحيث تترك هامشاً ضئيلاً فقط لمن تبقى من مؤسسات وشركات صغرى ومتوسطة لتتنافس فيما بينها وفق شريعة الغاب وقوانينها الوحشية، التي تدعى وفق قاموس الليبرالية الجديدة  المستحدث باقتصاد السوق الحر.

ومن تلك المؤسسات الإقراضية والمالية السالفة الذكر أخص صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، الذين تحظى الولايات المتحدة ومن لف لفها من دول الشمال الغني بحصة الأسد من تمويلهما، وبالتالي حق رسم وتسيير سياساتهما وتوجهاتهما، والذين عمل ويعمل كل منهما، في الحقل الاقتصادي بشكل لا يختلف كثيراً عن دور حلف شمال الأطلسي في المجال السياسي والعسكري. ويمكن تكثيف رؤية تينك المؤسستين بالإشارة لثوابتهما الكبرى في تعاملهما مع مجتمعات المفقرين و الدول النامية، و المتمثلة في الميدان الاقتصادي بإلغاء الدعم الحكومي للصناعات المحلية، وللفئات المستضعفة في المجتمع، وخصخصة منشآت القطاع العام، وتحرير الأسواق والتي تعني فتح قطاعاتها الاقتصادية على أعنتها للاستثمارات الأجنبية دون قيد أو شرط وخاصة من خلال توجيه خططها الاقتصادية باتجاه تحويل جل جهودها الاقتصادية المحلية لتصدير المواد الأولية التي تتطلبها تلك الاستثمارات الأجنبية، دون التفكر بإخضاعها إلى أي جهد تصنيعي، وترك أسواقها مشرعة لتصريف نتاج الشركات العابرة للقارات، بغض النظر عما قد يستتبع ذلك من موات واندثار للصناعات المحلية غير القادرة على منافسة تلك العالية الكفاءة و المسنودة بقدرات تقانية فائقة مثل تلك التي تنتجها الشركات العابرة للقارات، والتي يحصل معظمها على دعم غير محدود من الدول التي تتخذها مقراً رئيسياً لها، و الذي يتم في غالب الأحايين عبر دعم مالي مباشر من حكومات تلك الدول على حساب دافعي الضرائب فيها، كما هو الحال في الغالبية المطلقة من الشركات الأمريكية الكبرى التي لا يمكن استثناء أي منها من السلسلة اللامتناهية من دعم الولايات المتحدة اللامحدود لشركاتها العملاقة، والذي دونه لم يكن لأي منها البقاء والاستمرار. وهو الدعم الذي يتخذ في بعض الأحيان الأخرى، شكلاً مخاتلاً، وخاصة في الدول الأوربية، واليابان، من خلال تسهيلات ضريبية، وإعفاءات ضريبية لا تختلف في مآلها الأخير عن حالة الدعم المادي المباشر لتلك الشركات الكبرى والعابرة للقارات.

ولا تتوقف وصفات صندوق النقد الدولي و البنك الدولي عند الحدود التي عرجنا عليها أعلاه، وإنما تتمدد لتتدخل في كل أحياز عمل حكومات المجتمعات المنهوبة، في مقابل موافقتهما على إقراض تلك المجتمعات المتعثرة اقتصادياً كنتيجة للتاريخ الطويل من الاستعمار المباشر الذي تعرضت له، وحرمانها من الاستفادة من مواردها التي كانت تذهب إلى خزائن المستعمرين الذين بنوا قاعدتهم الاقتصادية والتصنيعية الفائقة من الثروة التي تراكمت تاريخياً عبر النهب البربري الممنهج لدول المستعمرات، والتي عقب تفلتها من نير الاستعمار كان لا بد أن يتم منعها من أي إمكانية للاستقلال الاقتصادي، وبناء قاعدة تصنيعية محلية يمكن أن تمثل أرضية للانعتاق من هيمنة وكلاء المستعمرين القدماء الذين لم يرحلوا إلا شكلياً، ليتركوا نواطيرهم من الوكلاء للقيام بالمهمات التي كان يقوم بها المفوضون السامون سالفاً.

وذلك الواقع البائس من تحويل المجتمعات من بوتقات لتفاعل واجتهاد البشر المتشاركين فيها لتحسين مستويات حيواتهم بشكل جمعي يتفق مع العقد الاجتماعي الضمني أو المعلن قانونياً ودستورياً فيما بينهم، لتصبح هشيماً وحطاماً متذرياً سدرة المنتهى لأبنائه الحظيان بفرصة عمل في إحدى الأنشطة الاقتصادية التي تديرها الشركات العابرة للقارات أو تعمل لصالحها، و هو ما يتم التسويق له إعلامياً عبر وسائل الإعلام المتسيد على أنه قفزات اقتصادية جبارة، وذلك عبر إفراغ الاقتصاد من أي حمولة اجتماعية له، واختزاله بما يدعى الناتج الإجمالي الوطني، والذي لا بد أنه متزايداً من الناحية الرقمية كحد أدنى؛ ولكن دون الإشارة إلى أن المستفيد من نموه الرقمي هو الشركات العابرة للقارات، ونواطيرها، ووكلاؤها من تجار الكمبرادور، والنهابين الانتهازيين الذين يقومون بتسهيل أنشطتها عبر استئثارهم بمفاتيح الفساد والإفساد في المجتمع لزيادة طين الحطام والهشيم بلة وبؤساً. ولا بد من الإشارة إلى أن مقاييس نمو الناتج القومي التي تتغزل بها تلك المؤسسات الإقراضية الدولية، وتتفاخر بعملقة أرقامها لا تلتفت أبداً إلى الحقيقة المرة بأن هناك أرقاماً أخرى في كل تلك المجتمعات التي تجرعت سم وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تسري في اتجاه معاكس تماماً لاتجاه نمو أرقام الناتج القومي المحلي، وتتمثل بتهالك النظم الصحية والتعليمية، وزيادة معدلات الفقر والبطالة جراء تآكل كل الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالعمل اليدوي و العائلي و نتاج الورشات الصغيرة، والتي لم يكن لها أي حظ في منافسة نتاج ذلك الأكفأ صناعياً وتقانياً من إنتاج الشركات العابرة للقارات، والتي لا بد أنها تستطيع إنتاجه بسعر أقل كثيراً من كلفة إنتاجه محلياً، خاصة في ضوء الدعم اللامحدود الذي تحصل عليه تلك الشركات العابرة للقارات على حساب دافعي الضرائب في دولها أو عبر تسهيلات ضريبية خارقة للعادة كما أسلفنا سابقاً.

وذلك الواقع المأزوم والأشوه أفضى خلال العقود الأربعة الأخيرة إلى نتائج كارثية في حيزي اتجاهات الإنتاج والإيديولوجيا. ففي حيز الإنتاج لم يكن هناك بد من حدوث ارتكاس اقتصادي عفوي وبديهي في المجتمعات سواء تلك التي تم تهشيمها بمفاعيل القوة التدميرية الفائقة لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة أساساً كما كانت الحال عليه في أفغانستان و العراق مثلاً، أو عبر تداخله العسكري غير المباشر في غير موضع من القارة اللاتينية من خلال المليشيات العسكرية وشبه العسكرية التي تدعمها وتمولها وتدرب كوادرها وتغطيها سياسياً الولايات المتحدة الأمريكية ومن لف لفها من الدول والمنظمات كما كان الحال عليه في بوليفيا، وهندوراس، وغواتيمالا، ومن قبلها تشيلي، ونيكاراغوا؛ بالتوازي مع الحرب الاقتصادية التي لا تنتهي مفاعيلها وتلاوينها وتتمثل في الضغوطات والاشتراطات التي لا بد من الانصياع لها في حالة كل المجتمعات المفقرة التي لم يبق لها من الخيارات سوى اللجوء إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وتمثل ذلك الارتكاس الاقتصادي العفوي في انزياح جل الفعاليات الاقتصادية في تلك المجتمعات وخاصة الزراعية منها، بعد أن تم تهشيمها كليانياً سواء عسكرياً أو اقتصادياً بفعل إغراق أسواق تصريفها بمنتجات الشركات العابرة للقارات التي لا يمكن لأي من تلك الفعاليات الاقتصادية منافستها، بشكل يستحضر الوعي الشيطاني الذي عمل بناء عليه التجار البريطانيون في القرن التاسع عشر حينما لم يجدوا أي منتج ينتجونه يمكن أن يجدوا طلباً له في أسواق الصين آنذاك سوى الأفيون، وهو الذي كان بنتيجته شَنُّ البريطانيين حرب أفيونهم الشهيرة لإرغام الإمبراطور الصيني آنذاك على فتح أسواقه لنتاج مزارع الأفيون التي كان يديرها البريطانيون في مستعمراتهم في شبه القارة الهندية بعد أن أرغموا مزارعيها على التخلي عن زراعتهم التقليدية لزراعة الأفيون تلبية لإرادة حكومة جلالة الملكة ومصالحها الاقتصادية التي لا بد أن لا يشوبها أي وازع أخلاقي وفق نهج الواقعية والذرائعية الوحشية على الطريقة الميكافيلية التي تمثل أس السياسة الغربية منذ فجر النهضة الصناعية وحتى اللحظة الراهنة. وتمثل ذلك الاستحضار في المجتمعات المهشمة في انزياح قطاعاتها الإنتاجية وخاصة الفلاحية منها لزراعة الأفيون، وإنتاج الكوكايين المصنع، باستخدام التقنيات والمواد الأولية التصنيعية التي يتم توريدها جهاراً نهاراً من الشركات العابرة للقارات نفسها إلى تلك المجتمعات المهشمة نفسها، لتقوم بتصنيع طوفان من المواد المخدرة التي ما فتئت تغرق الأسواق العالمية بها، وهي التي لا بد أن يعود خراجها الأكبر إلى شرايين الشركات العابرة للقارات نفسها من خلال أذرعها المالية الأخطبوطية، والتي لا بد من اللجوء إليها للقيام بعملية غسيل أكداس الأموال القذرة التي سوف تنتج عن تلك التجارة غير الشرعية، وهي التخصص المثالي للمصارف والمؤسسات المالية الغربية التي تتفنن في إظهار شفافيتها الاقتصادية، والتزامها الكلياني بمكافحة غسيل الأموال حينما يتعلق ذلك بمهاجر مظلوم كذلك الصومالي المسكين الذي تفكر بتحويل بضعة دولارات إلى أهله في الصومال، فأصبح ممول الإرهاب الأعظم الذي جلجلت قصته جنبات الإعلام الغربي، بينما يتم جهاراً نهاراً و بشكل يومي لا ينقطع في شرايين المؤسسات المالية المتسيدة في دول الشمال الغني، و من خلال أذرعها الأخطبوطية في كل أرجاء الأرضين غسيل المليارات من الأموال القذرة لشبكات إنتاج المخدرات على المستوى الكوني، وعلى امتداد خارطة الدول التي تم تحويلها إلى دول فاشلة بامتياز بقوة مفاعيل هيمنة الأقوياء على المستضعفين. و الواقع التاريخي الموثق يشي بأن تلك الحلقة الشيطانية من إنتاج المخدرات و غسيل أموالها القذرة لطالما حظيت بدعم وغض نظر وتبادل مصالح مشترك مع وكالة الاستخبارات الأمريكية، و هي الوكالة التي تعتبر ذلك النموذج من تعشيق المسننات المضمر مع تلك الأنشطة اللاشرعية التي تجري على المستوى الكوني أحد أهم مصادر تمويل عملياتها القذرة التي لا يمكن أن تحصل على تمويل لها من الكونغرس الأمريكي لبشاعتها المنقطعة النظير، والتي لا يمكن تبريرها حتى في أكثر وسائل الإعلام دعة والتزاماً بتلبية مصالح الفئات المهيمنة في مجتمعات الأقوياء الأثرياء في دول الشمال الغني.

وفي الحيز الأيديولوجي، فإن تمظهر واقع البؤس الآنف الذكر في مجتمعات الحطام والهشيم والفناء الذي لم يعد في سياقه ممكناً للبشر المهصورين المحسورين بإفقارهم و استغلالهم و قمعهم حتى نقي عظامهم أن يقيتوا أبناءهم، بالتوازي مع إحساسهم المطلق بعدمية وجودهم في حيواتهم، وانغلاق الآفاق بشكل كلياني شامل عمقاً وسطحاً في كل تفاصيل محيطهم الاجتماعي، والذي لا يبرز مخرج منه سوى بالسعي المحموم للخروج من جحيمهم السرمدي عبر محاولة الهجرة حتى لو كان ذلك عبر قوارب الموت إلى شطآن لا بد أنها أفضل بأي مقياس من المقاييس من ذلك الموت المقيم مع وقف التنفيذ الذي يعايشه الإنسان المقهور في مجتمعات الدول المنهوبة المفقرة الفاشلة، وسوى ذلك فإن الخيار الأوحد  المتبقي هو النكوص إلى عقل الحيوان الكاسر في الغابة، والتخلي عن كل معايير وأخلاق وأعراف البشر التي راكموها على امتداد آلاف السنين لتنظيم حياتهم في مجتمعات تستطيع الحفاظ على وجودها، للتنكس إنسانياً والانخراط في أي من الأنشطة المارقة التي لا يمكن القيام بسواها في تلك المجتمعات الفاشلة، سواء كان ذلك عبر الاندماج في الشبكات الإجرامية المافيوية من قبيل صناعة وتجارة المخدرات، أو الرقيق الأبيض، وتجارة الأسلحة، والارتزاق العسكري بالانضمام إلى مليشيات شبه عسكرية مستعدة للقيام بما يطلبه من يستطيع الدفع أكثر لها.

وذلك الواقع البائس الأخير لا بد أن يفضي إلى إحساس مستبطن بالرغبة الانتقامية العميقة من كل أولئك الذين أودوا بأولئك البشر المتطفرين المتنكسين إلى نموذج حيوانات الغابة الكاسرة، وهو الإحساس الذي يمكن أن يشرأب ويفصح عن نفسه بشكل عياني مشخص حينما يجد تمويلاً له مستعداً لاستغلال تلك الرغبة الانتقامية الغريزية الفطرية، وهي التي يمكن تعزيزها وجدانياً في حال نجاح ذلك الراغب باستغلالها بتلبيسها لبوساً إيديولوجياً سواء كان قومياً على طريقة متمردي الكونترا في نيكاراغوا، أو دينياً على نهج المجاهدين الأفغان واستنساخاتهم السرطانية على شكل تنظيم القاعدة واستطالاته وصولاً إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام. وهو ما يعني بشكل مبسط تحويل المقهورين المفقرين المظلومين إلى إرهابيين بقوة الواقع الذي لا خيار فيه سوى ذلك المآل الكالح الرهيب.

***

دكتور مصعب قاسم عزاوي 

في المثقف اليوم