أقلام فكرية

سامي عبد العال: باثولوجيا الثقافة.. الجاهل (2)

هل لدى (الجاهل) تبريرٌ لما يُمارس من أفعالٍّ؟! هل بإمكان الجاهل– لو تصورنا ذلك - أنْ يشرح ما يقُوم به من أدوارٍ؟! القضية اللافتة أنَّه(كنموذج ثقافي) يبقى مدركاً لما يفعل، ولكنه يتغاضى عما يُقال له من سلبيات، وهو كذلك يعيش حالة من القبول التام بمنطقه البرجماتي. لأنَّ كل شيء من وجهة نظره قابل التسلق والقنص وصولاً إلى مآربه. وأنَّ ما قد يعترضه من مشكلاتٍ يحتاج فقط لوناً من المراوغة ليس أكثر، ثم سرعان ما تمُر الأمورُ إلي النهاية بسلام ووئام!!

يحاول الجاهل طوال الوقت أنْ يغطي ما يقوم به بواسطة (أفعال بديله) في السياق العام. مثل إدعاء العقلانية أو المهنية أو العلم أو الفكر أو الأصالة أو الخبرة. وهي إدعاءات ليست أكثر من حيل دفاعيةٍ إلى أبعد نقطة ممكنةٍ وتنم عما يفتقده طوال الوقت. وبخاصة أنَّ طلب التبرير يعني أنه سيقدم (شيئاً مقنعاً) للمتابع حتى يتفهم الآخرون أفعاله. في حين أنَّه مستغرق تماماً في كيفية ملء (دلالة أوسع) من وجوده، سواء أكان بالخطاب الزلق أم بعبارات الايهام والخداع أم بالهروب إلى الأمام. يبقى لجوء الجاهل إلى مخزون الحيل والمراوغات بمثابة الشغل الشاغل لتثبيت صورته أمام الناس طوال الوقت.

الجاهل والتبرير

لعلَّ أشكال التبرير الخاصة التي يبذلها الجاهل غير صحيحة بالمرة، لأنَّ تبريراً شخصياً( نفسياً أو إخلاقياً) لأفعاله غير دقيق في تلك الحالة. ولأنه كذلك لن يمل الاتيان بالحيل الواحدة وراء الأخرى، فكلما استنفد حيلةً لن تعوزه الأخرى في تلميع صورته والعودة كرةً تالية إلى سيرته الأولى. وليس مطلوباً من (باثولوجيا الثقافة) أنْ تبحث عن التبريرات الذاتية من الأساس. فالباثولوجيا كمعرفة فلسفيةٍ تنقب وتتساءل عن العوامل الأخرى التي من جنس تكوين نموذج الجاهل والآليات المشارِكة في إعادة انتاجه.

إنَّ النموذج الثقافي للجاهل يُوفر له مكاناً آمناً ضمن المجال العمومي ومؤسساته. بكلماتٍ واضحةٍ أنَّ الثقافة تعطيه كافة الإشباعات النفسية والإجتماعية التي يفتقدها في أي مكان آخر. وهو يختبئ داخل الممارسات الثقافية التي تبدو عشوائية أو حتى محكومة بالقواعد والضوابط الرسمية. وباعتبارها مستوى أكبر من المستويات الفردية، فالثقافة بامكانها أن تقدم لنا (تبريراً نسقياً) أو بالأحرى (توضيحاً نسقياً) لما يحدث للجاهل، وكيف أصبح، ولماذا تحول، وبأي منطق يمارس أدواره؟

لنبدأ بتوضيح أنَّ (نموذج الجاهل) عبارة عن (وظيفة) لا مثال، وعبارة عن (صورة) لا ماهية. كل ذلك تبعاً لطريقة أداء الأدوار القائم بها، فهو ليس أكثر من ذلك (الممثل actor) الذي تحركه الثقافة لأدوراها في المجتمعات. أي أنَّه يجسد (ثقافة الانحطاط) التي هي نوع من الرجعية والنكوص إزاء ما هو إنساني. فقد يعتبر الجاهل – أثناء انتفاخه الأهوج - أنه رمز للتطور والإختلاف، ولكنه في الحقيقة يمثل مرايا الثقافة التي تغرقه في لعبة الصور المنعكسة. لأنَّ الذكاء والألمعية يحتاجان وعياً مغايراً يفتقر إليه على الأصالة لا مجرد إدعاء جديدٍ كل يوم.

والغريب أنَّ أبي العلاء المعري طرح القضية بوضوح ثقافي: " لما رأيتُ الجهلَّ في الناس فاشياً، تجاهلُت حتى ظُنَّ أني جاهل".  المغزى أنَّ الجهل بات (نظاماً) ينتج الأفكار والذهنيات ويهبط بالوعي إلى مستوى الشيوع الذي لا مفر منه. والمعري يضع يده على الثقافة التي يصعب تجنبها، لأنَّ الجهل أصبح نتيجة حلقاتها المتداخلة في مناحٍ كثيرة. والدلالة لا تخطئها الملاحظة في كون تعامل المعري بتجاهل إزاء ما يحدث قد أودى به إلى (منزلق الجهل)، فما كان من الثقافة إلّا أن أومأت إليه بالمسمى الذي يراه شائعاً بين الناس. وتلك نقطة في غاية الخطورة أن (نموذج الجاهل) يترك آثاراَ ترتد إليه في صورة أوصاف تطلب دلالة في الأشخاص. ونتيجة أن المعري تغافل عما يفعله الجهلاء، ظن الناس أنه جاهل رغم عدم رضائه عما يفعلون.

والجهل بذلك مساحة ثقافية اجتماعية قد لا ينجو منها الإنسان بسهولة. وذلك يبين مدى الأثر السلبي الذي يتركه الجاهل عبر احتلاله لموقع رسمي أو علمي أو اجتماعي أو غيرها. لأن الجاهل رصاصة طائشة تصيب من تصيب، ولا يعبأ بما يترك من سلبيات. يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي إن الرجال أصناف أربعة إزاء المساحة المشركة بين الناس: " رجل يدري ويدري ‏أنَّه يدري، فذلك عالم فاعرفوه، ورجل يدري ولا ‏يدري أنه يدري،‏ فذلك غافل فأيقظوه، ورجل لا يدري ‏ويدري أنه لا يدري، فذلك جاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا ‏يدري أنه لا يدري،‏ فذلك أحمق فاجتنبوه".

المفترض أنَّ الجاهل الاعتيادي (البسيط) يدري أنه لا يعرف شيئاً لو كان في موقف يقتضي ذلك، والمنطقي كذلك أنْ يتعلم أو يحاول المعرفة والرجوع إلى المصادر اللازمة لذلك. ولكن الجاهل يقف خارج ذاته متمسكاً بالحمق الذي لا يعطيه فرصة للتعلم. أي أن الجاهل المقصود حالة معقدة على أكثر من صعيد. إذ لا يكتفي بعدم معرفته وعدم انفتاحه الإنساني وهو قد يدرك ذلك الوضع، غير أن الأخطر هو حرصه على التحايل الذي يجعل وضعه مغلقاً معقوداً عليه بخلاف ما يضمر من الداخل، بخلاف ما هو عليه. فهناك إصرار عجيب على تحقيق معنى النموذج الثقافي للجهل المركب.

البلادة الناعمة

وهي سمه ترتبط بالصورة الذي يكونها الجاهل عن نفسه وعن الحياة وعن الآخر. فهي موضوع كامل الحضور بالنسبة إليه ولا يقبل أيَّ تغيير لها ولا يري فيها أية مشكلة تذكر. وبالتأكيد لا يطلق الجاهل على البلادة مسماها السلبي، لكنها حالة محببة ووثيرة وناعمة. فهو بليد لدرجة فقدان الإحساس بالواقع، البلادة لون من التخدير الأعمى الذي يعيشه باستمرار.

أي أن الجاهل له من رصيد كبير من الرضا الذاتي والأريحية فيما يفعل. هو يملأ لاشعورياً ما يراه شاغراً وكافياً للإحساس بالتأثير القوي ضمن المحيط الذي يحتويه. لأنَّ الجاهل ككائن حي يمثل ضرباً من (الإمتلاء الفارغ) الذي تحسبه شيئاً، لكنه مجرد صوت الفراغ. هذا الأمر لا يوجد به تناقض على ما نظن، لكنه يكشف كيف يمارس هذا النموذج أحوال الثقافة الشائعة. وهو نموذج غالب نتيجة الاستجابة المتصلبة مع أحوال المحيطين به.

الجاهل آلية ثقافية تستهلك الوقت، وتجعل من نموذجه حائط صد لأية فكرة مختلفة. فالثقافة- في أطوار الانحطاط- تمجد ذاتها من عصر إلى آخر. ويصب كلُّ التمجيد كما نراه ضمن صوتها التاريخي في وجه التغيرات والتهديدات المحتملة. فالثقافة العربية تصنع نماذج بشرية تتسيد المشاهد وكأنها حقيقة أو سمة عامة، غير أنها لا تبدي لهم أية قلقلة أو تهديداً وجودياً. وهذا أحد الأسباب التي تجعل الجهلاء مطمئنين بمواقعهم المتفردة.

يؤكد ابو الطيب المتنبي: " أَماتَكُمُ مِن قَبلِ مَوتِكُمُ الجَهلُ :: وَجَرَّكُمُ مِن خِفَّةٍ بِكُمُ النَملُ ". والحقيقة التي يؤكدها المتنبي أن الجهل قاتل لعلةٍ كامنة في الجاهل نفسه، علة البلادة التي تقذف الإنسان كصخرةٍ صماء بلا إحساس، بلا استجابة للآخر، أنه من فرط البلادة عبارة عن جثة متحركة.

والمتنبي يرى في الجهل المرض العضال الذي لن يفلت منه صاحبه، ويحوله إلى مجرد جثة متحركة. ورغم أنَّ صاحبه يدعي الرزانة  والثبات، فإنه يصبح خفيفاً لا قيمة له. لأنَّ العقوبة الرمزية من جنس العمل، إذ طالما أنه يدّعي المعرفة والفطنة، فإن جهله يلقيه إلينا خفيفاً كريشه في مهب الريح أو كما يقول المتنبي يجرجره نمل دقيق الحجم من فرط خفته. والمشهد ساخر بالفعل لو تخيلنا المنظر، فالجاهل عبارة عن (بلونه بشرية) تتلاعب بها أصغر الكائنات. والمتنبي يستكثر عليه أن يكون نداً لأي كائن آخر، وليس حتى نداً للنمل، لأن الأخير يجرجره، وهو ما يعني أنه فاقد صلاحيته للحياة والتأثير فيها.

الانخداع الذاتي

يغذي الجاهل غروره بالأوهام تلو الأوهام التي يُنتظر منها أنْ تشبع رغباته، وتظل صورةُ كونه مهماً صورةً لامعة أمام ناظريه. ليس من جاهل إلاَّ ويرسم الصور كما يريد، ويرفض رفضاً تاماً أنْ يقوم أحد بهذه المهمة. لأن الصورة بالنسبة إليه تمثل له الحقيقة كل الحقيقة. ولذلك يصدِّق الجاهل ذاته على الدوام، ولا يستطيع الخروج منها إلى الواقع، بكلمات أوضح يكمن المعيار في نفسه.

قال شاعر العرب جرير التميمي: " أَلَم تَرَ أَنَّ الجَهلَ أَقصَرَ باطِلُه :: وَأَمسى عَماءً قَد تَجَلَّت مَخايِلُه.." حيث يؤكد على أن طول المدى نتيجة الجهل والذي قصُر كان أمراً باطلاً، أي انخداعاً وزيفاً نتيجة عدم المعرفة. وهو المعنى الذي يجسد الفكرة بمضون واضح. وكلمة الباطل الواردة تجسد عدة دلالات منها: الخداع واغتصاب الحقوق والإدعاء الفارغ والمراوغة. ولذلك كان ربط جرير بين الجهل والمخايلة ربطاً مهماً في اعتبار أن ما ينتج عن الجاهل هو من وحي الخيال ليس أكثر.

ولذلك ليس الجاهل غبياً في مجمل الأحوال، لأنه يجيد استثمار الواقع والتلاعب بالتناقضات لصالحه. وهو ليس ذكياً بملء الكلمة أيضاً، لكونه لا يدرك أن الآخرين يعرفون ما يفعل ويحتال. كما أن المواقع التي يشغلها تعطيه طبقة سميكة من الحماية الظاهرية وتسمح له  بأن يكون معتقاً في الجهل. ففي المجتمعات العربية تلاحظ هذه العناصر البشرية كأنها آتية من غابر التاريخ رغم أنهم يستعملون أحدث التقنيات ويتكلمون بعبارات حداثية ويرتدون أفضل الأزياء وأكثرها جاذبية.

ربما يعد الانخداع الذاتي مسئولاً مباشراً عن ذلك، فلئن كان الجاهل يرتدي ويتكلم ويمارس أدواره الحداثية، فإنه يرسل رسالة إلى ذاته أنه أصبح عظيماً لا يشق له غبار. والانخداع الذاتي قابلية مفتوحة على المزيد حتى يواري الشعور بالدونية والإنكشاف. وبدلاً من أن يقف عند حدود، يطلب إكتساب أراض جديدة. فالمقابلة بين جاهل وشخص آخر تعد مناسبة لممارسة أدواره.

جدار الأنا

أمام أقل حوار يخص وجوده وأفعاله ينتفخ الجاهل إنتفاخاً لا حدود له. نظراً لأن هذا الانتفاخ يعوض مساحة الفراغ الحاصل لديه. حتى أنَّ الأنا هو الجدار الأول والأخير الذي يعاقب به غيره. بحيث تتحول المكانة التي يأخذها إلى دلالة عليه لا على ما يقوم به من انتاج وانجاز أن وجد.

والسبب أن مُركب النقص يظل لصيقاً بنشاط الجاهل، لأن الأنا يقفز من مجرد معنى إنساني داخله، إلى رغبة هيمنة كي يشعر بالأمان والثقة. فهو يفتقد للحكمة والتأمل والشعور بكونه إنساناً بين أناس آخرين وإن أدعى عكس ذلك. وهذا يعود إلى حياة الحرمان التي عاشها وسط بيئة قاسية تشعره بالتهديد المتواصل ويعود كذلك إلى حياة الإهمال حيث يتساوى مع السوائم. ولذلك يشعر الجاهل دوماً أنه في معركة حامية الوطيس أمام أعداء مجهولين، وأنه لابد أن يعدَّ نفسه لها وأنَّ أقل عقبة تعتبر نوعاً من المؤامرة التي حيكت بليل. مع أن ظهور نمطه الثقافي أحد أسباب الخيبات التي تفرزها البيئات الأقل تطوراً، وأن وجوده دليل قوي على انحطاط ثقافة لم نكتشفها ونشرح مسرتها التاريخية.

وأخر من يدرك ذلك الوضع تمام الإدراك هو الجاهل نفسه، لكون الإدراك هنا إدراكاً وجودياً ويمثل ميلاداً جديداً، لأن وجوده كله يظل معلقاً برقبته منفذاً وظائف نمطة بكل اتقان وإخلاص. والتغيير المأمول هنا يأتي من إعادة تجديد الثقافة. وهو تجديد يقول إن الإنسان كائن حر متطور وقادر على ممارسة وجوده بكل أصالة دون الكائنات الأخرى. وأن ارتداء ثوب الجهل لأجل الأغراض الخاصة هو عمل يرتكب جناية على المجتمع بأكمله لا على الفرد الذي هو الجاهل نفسه أو غيره.

يؤكد ميلان كونديرا: " لو أنَّ المرء ليس مسؤولًا إلاَّ عن الأمور التي يعيها فقط، لكانت الحماقات مبرأة سلفًا عن كلِّ إثم، لكنَّ الإنسان ملزم بالمعرفة، الإنسان مسؤول عن جهله، الجهل خطيئة كبرى." أي أن الوعي مرحلة ترتد إلى الفرد، والوعي يبرر لكل فرد أن يفعل مايشاء، بينما المعرفة فتعود إلى رؤى الثقافة التي هي المعرفة والاختلاف واتخاذ المواقف.

يعتقد نجيب محفوظ أنَّ" الحقيقة ليست قاسيةً، ولكن الانفلات من الجهل مؤلم كالولادة ." وتلك هي الحقيقة التي فوق كل حقيقة أخرى، إنها مؤلمة من هذه الزاوية، وبخاصة أنَّ الانفلات من الجهل ليس سهلاً، وليس فردياً كما أشرت بالأعلى. فالثقافة تتحرك على الصعيد نفسه من الهيمنة والتراجع، وأنَّ الجاهل لو وجد صدوداً هنا أو هناك، سيجد بالمقابل طرقاً مفتوحة أخرى. ولذلك يجب على الفلسفة أن تؤسس لثقافة مختلفة وأن تشق دروباً مؤلمة لفهم الحياة وإعطائها كلَّ معنى حُر يكافئ قدرتنا على التنوع والإختلاف الخلاق لا السلبي.

***

 

 

 

في المثقف اليوم