أقلام فكرية

فكرة الخلاص الحصري والتعددية الدينية (1)

علي رسول الربيعيتتوقف فكرة الخلاص - سواء طُبقت على الأفراد أو المجتمعات - على مستوى السلوك اللائق، والعيش وفقًا للإيمان الحقيقي.[1] نظرًا لأن جميع الأديان معنية بالخلاص، فإن الاعتراف بالديانات الأخرى يعني الاعتراف بدعوى أنها تؤدي إلى الخلاص.  لسوء الحظ، فإن استعداد الإسلام للاعتراف بشرعية مسارات الديانات الأخرى للخلاص أصبح مشوشا ومحجوبًا بسبب الجدل اللاهوتي حول  التفوق و"الغلبة"[2]

لقد ادعت الأنظمة الدينية  تقليديًا التفاني والتقوى المطلقة واحتكار سلطة أنقاذ الناس من الشر. وأُعتبرت مثل هذه الادعاءات الإقصائية كأدوات طبيعية وضرورية للهوية الذاتية لمجموعة ما ضد ادعاءات أخرى بالحقيقة المطلقة. لم يتم الاعتراف، حتى داخل المجتمع المسلم بأن الاتجاه الذي اتخذته المدارس الفكرية الأخرى- عن سبيل المثال، الشيعة أو السنة - يمكن أن يؤدي إلى الخلاص الحقيقي.[3] تبقى القيمة الخلاصية للآخر حتى اذا أُعترف بها محدودة، لتقريب الناس من الهدف البعيد المتمثل في التحول الروحي، لكن  على الأرجح يتركهم عالقين في منتصف الطريق.

كان هذا الادعاء الحصري، من وجهة نظر التنظيم الاجتماعي، أداة فعالة لإضفاء الشرعية والاندماج، حيث زود أعضائه بوسائل عملية لتأكيد هويتهم الجماعية. بالإضافة إلى ذلك، قدمت الهوية الجماعاتية التي تم تبنيها حديثًا أساسًا فعالًا بالقدر نفسه للقمع واستغلال أولئك الذين لم يشاركوا هذا الشعور بالانتماء لجماعة المؤمنين. لقد جعل تبرير مثل هذا العدوان، الذي يوصف من الناحية الدينية بأنه "حرب مقدسة"، من الممكن للمؤمنين في نظام معين أن يفرضوا هيمنتهم بالقسر والأكراه على "الكفار" باسم سلطة مقدسة.

مما لا شك فيه أن الشرعية الدينية لمثل هذه المصالح والأساليب المهيمنة كانت موضع شك، وبالتالي كان لابد من تبريرها من خلال الكتابات المقدسة نفسها التي بدت أنها تتحدى أي ادعاء بالتكريس الاجباري للبنى الإجتماعية والقانونية الباهظة بواسطة الاستبداد الديني. كانت هذه الحاجة للشرعية الفكرية هي التي عززت الصياغة التفسيرية لمصادر الوحي من أجل تقديم دعم تفسيري مقنع لغايات مطلقة. وفُسرت آيات محددة من النص المقدس لتقدم تعريفًا مقيدًا للإيمان الخلاصي حيث تم اعتبار الأديان الأخرى منسوخة وبالتالي خالية من إمكانات الخلاص.

حاول بعض مفسري القرآن المسلمين الكلاسيكيين فصل تاريخ خلاص المجتمع عن تاريخ الديانات الأبراهمية الأخرى من خلال إثبات تفوق الوحي الإسلامي على المسيحية واليهودية.[4] وقد كان على علماء الدين المسلمين، في محاولة للمطالبة بقبول لا جدال فيه للإيمان الجديد، أن يبتكروا حيلًا من مصطلحات ومنهجية للتخلص من تأكيد الآيات الخلاصية في القرآن التي توسع الأصالة الخلاصية وملاءمتها للتقاليد التوحيدية الأخرى.

كانت إحدى طرق تخفيف قوة آية ما هو ادعاء نسخها بآية أخرى. فقد قيل في كتب التفسير القرآني إن العديد من الآيات نُسخت. لكن قدمت الدراسات الحديثة لبعض الفقهاء المسلمين البارزين توثيقًا لا جدال فيه بأن جميع الآيات الـ 137 المنسوخة جزئياً لا تزال صالحة في الواقع. يتفق علماء المسلمين على أن العديد من الأوامر أو الأحكام السابقة قد ألغتها الشريعة. ولكن لا يوجد اتفاق من هذا القبيل حول ما إذا كانت أية أحكام قرآنية قد نُسخت بآيات قرآنية أخرى، أو بحديث نبوي صحيح، أو بإجماع علماء المسلمين، أو بالعقل. لا يمكن إثبات النسخ من خلال الاستشهاد بحديث نادر أو ضعيف، لأن تقريرًا من مصدر واحد فقط هو في حد ذاته دليل على الباطل أو الخطأ من جانب الراوي.

المشكلة الرئيسية التي تواجه العلماء المعاصرين هي قبول حكم المفسرين السابقين حول آية معينة منسوخة.[5] لقد مال المفسرون عند العثور على تناقض بين آية سابقة وآية لاحقة إلى منح الشرعية للآية الأحدث، وبالتالي إلغاء الآية السابقة. يعودهذا الموقف إما الى سوء الحكم أو التطبيق الفضفاض لكلمة النسخ. إن تطبيق المعنى العام للنسخ (التحول، أو الاستبدال، أو الحذف) على المواقف التي تتطلب تطبيق معناها التقني (الإلغاء) قد خلق صعوبات هائلة في تقييم الرسالة التعددية للقرآن.

يتضمن القرآن ( السورة 2- آية 213) خطابًا عالميًا يحتضن البشرية جمعاء تحت سلطة إلهية واحدة، وبالتالي ينسب مكانة روحية إلى جميع الادعاءات الدينية المتنافسة. وقد استند مصطلح العالمي هذا إلى مبدأ التوحيد - تأكيد الوحدة الإلهية. إن الاعتراف بالتوحيد يعني تركيز الإنسان على الحقيقة المطلقة  التي هي مصدر كل الأنفس. إنه يؤكد مركزية الله بدون وساطة بشرية والمصير الروحي للبشرية. علاوة على ذلك، يضع التوحيد الله بشكل فريد كمصدر الوحي (الكتاب) كما ينقل من خلال الأنبياء. كان الأنبياء يمثلون الوحي نفسه، ويجسدون جوانب مختلفة من الإرادة الإلهية في أوقات مختلفة.

عندما أرسى الإسلام أسس النظام السياسي، سعى القادة المسلمون إلى طرح خطابات من شأنها أن تزود المؤمنين بهوية فريدة ووسائل عمليًة لتأكيدها من خلال وجود نظام حصري قائم على إعلان الإيمان والشهادة. كان هذا التطور بمثابة تحول واضح بعيدًا عن الاعتراف القرآني بالتعددية الدينية بمعنى التدين البشري المتمركز حول الله في كل حالة من حالات الوحي التاريخي للواقع الإلهي. كما أنه قلل من أهمية وحدة الجنس البشري في مجال الخطاب الأخلاقي والروحي الكوني. كان إنشاء أول مجتمع إسلامي فصلًا مهمًا في تعريف المسلمين بأنفسهم كمجتمع يتمتع بتقاليد ذات فعالية خلاصية مميزة. علاوة على ذلك، واجه المسلمون الأوائل مطالبات متنافسة بالتدين الأصيل من قبل الموحدين الآخرين مثل المسيحيين واليهود في الوسط الديني لشبه الجزيرة العربية في القرن السابع. أدت هذه اللقاءات، التي ولّدت جدالات بين الأديان في سياق نظام إسلامي عام الى أن يرى المسلمون أنهم يتمتعون فيه بمكانة مميزة، وإلى الوضع القانوني الخاص للإسلام باعتباره نسخة فريدة ومثالية من التوحيد الإبراهيمي الأصيل. الفكرة المقبولة عموما التي ظهروا فيها  من هذه الجدالات كانت العقيدة القائلة بأن الوحي القرآني كان تتويجاً لأسلافه، وأن هؤلاء الاسلاف لم يكونوا أكثر من تطبيق عابر ومحدود. أدى هذا المفهوم أيضًا إلى عقيدة الغلبة بين بعض علماء الدين المسلمين، الذين جادلوا بأنه لا القانون الموسوي ولا الكتاب المقدس المسيحي الموجه  لبشر محدد ومحدود من الأتباع  لديه أي ادعاء بالصلاحية الأبدية.

كان لا بد من حل التناقض الظاهر بين بعض آيات القرآن التي اعترفت بالمصادر الخلاصية الأخرى وغيرها من الايات التي أعلنت أن الإسلام هو المصدر الوحيد للخلاص من أجل إقامة نظام مستقر للتعايش السلمي مع هذه الأديان. لقد عُبر عن التعددية القرآنية من خلال الوعد بالخلاص "لمن يؤمن بالله واليوم الآخر" بين "اليهود والمسيحيين والصابئيين" (السورة 2، اية 62). كما  أُكد على الحكم الإسلامي المطلق بعبارات لا لبس فيها: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ " (سورة 3، آية 85)

مما لا شك فيه أن القرآن صامت عن مسألة بطلان الوحي الإبراهيمي السابقة لظهور النبي محمد. لا يوجد في القرآن ما يشير، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى أن القرآن يعتبر نفسه ناسخًا للكتب المقدسة السابقة. يؤكد القرآن وحتى عند نبذ التحريفات التي أدخلها أتباع موسى وعيسى في الرسالة الإلهية على صحة هذا الوحي  وموضوعه المركزي، أي الخضوع المبني على الإيمان الصادق بالله. ومع ذلك فإن مسألة التسلسل الزمني للوحي الإلهي وإمكانية تطبيقه على المجتمعات اللاحقة تشكل خطًا لاهوتيًا مهمًا في الأدبيات التفسيرية الكلاسيكية. زود مبدأ التسلسل الزمني اللاهوتيين بمفهوم النسخ  ليشرحوا به مراحل مختلفة من الوحي عبر التاريخ. لقد كشف الوحي عن نفسه تدريجياً في الوقت المناسب، وأكمله الوحي اللاحق وبالتالي ألغيً الوحي السابق. من المهم أن نضع في اعتبارنا أن القرآن يقدم فكرة النسخ فيما يتعلق بأوامر قانونية محددة نزلت في آيات معينة ولكن يبدو أنها منسوخة  بآخرى. وعليه  فإن تطبيق النسخ على موقف الإسلام من التقاليد الإبراهيمية السابقة كان، على أقل تقدير، موضع نقاش.

***

الدّكتورعليّ رّسول الرّبيعيّ

.....................

[1] أنظر بهذا الصدد:

John L. Esposito, The Islamic Threat: Myth orA Reality? (New York: Oxford University Press, 1992);

Bruce Lawrence, In Shattering the Myth: Islam beyond Violence (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1998).

[2] David Heyd, ed., Toleration: An Elusive Virtue (Princeton: Princeton Univer­ sity Press, 1996),  pp. 3-17.

[3] Gerrie Lubbe, "The Role of Religion in the Process of Nation-building: From Plurality to Pluralism," Religion and Theology 2 (1995), pp. 159-170.

[4] قدم  برنارد لويس مفهوم صدام الحضارات قبل الانهيار النهائي للشيوعية، أنظر:

Bernard Lewis, The Roots of the Muslim Rage," Atlantic Monthly September 1990, p. 60.

في عام 1993، نشرها صموئيل ب. هنتنغتون في مقال له وفي كتابه اللاحق، أنظر:

Samuel P.  Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order (New York: Simon and Schuster, 1996).

تعامل الصدام مع أكثر من رد فعل الغرب على الزوال النهائي للاتحاد السوفيتي. إنه ينقل استياء بعض المفكرين الغربيين لأدراكهم  أن الحضارات غير الغربية ليست على استعداد لقبول تفوق الأفكار الليبرالية الغربية بسبب بعض عدم التوافقات المتأصلة في هذه الثقافات والحضارات.

من اجل نقد ثاقب  لأطروحة  هنتنغتون أنظر:

Shireen T. Hunter, The Future of Islam and the West: Clash of Civilizations or Peaceful Coexistence? (Westport, CT: Praeger, 1998

[5] . حسن الترابي، الشورى والديمقراطية، اشكالات المصطلح والمفهوم، المستقبل العربي والقضية الفلسطينية بعد أزمة الخليج،، تحرير، سعد الدين ابراهيم، القاهرة، مركز اتحاد المحامين العرب، 1991، ص 4-22.

في المثقف اليوم