أقلام فكرية

الفلسفة السياسية.. من التنوير الى الثورة

3567 الفلسفة السياسيةسنعرض لثلاثة مفكرين ثوريين، لنرى كيف ساهمت أفكارهم في خلق التقدم في السياسة. شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر مولد الحداثة، حيث بدأت أفكار التنوير حول العلوم والعقل والتقدم تتغلغل في الحلقات الفكرية في العالم الغربي. الى جانب هذا، اصبحت فكرة "حديث" ترمز الى التقدم نحو الابتكار والتطور. التاريخ كان مسيرة الحضارات والناس في اتجاه شيء ما أفضل، شيء يجلب السلام ويتجه بعيدا عن الحروب والدمار. لكن هذه الآمال تحطمت عندما سلب القرن العشرون هذه المُثل واصبحت شيئا فشيئا بلا أساس. الحربان العالميتان، الفاشية، الشيوعية السلطوية، وموجة اللاليبرالية الشمولية، اصبحت الخصم اللدود لمُثل التنوير. هذا خلق انطباعا واسعا بان المُثل ذاتها لم تكن الاّ أوهاما وأحلام. طبقا لخصومه الجدد، كان التنوير غامضا، له تطبيقات سياسية محدودة، أعطى صورة رمزية خاطئة لطبيعة الانسان (وضمناً، لتاريخ الانسان) وتجاهل العديد من الاختلافات بين عدد هائل من الثقافات والتجارب الحية في المجتمعات التعددية. العقل والتقدم كانا كما يبدوان ليسا صحيحين ابدا.

وهكذا غيّر النصف الاول من القرن العشرين جذريا ما كان سيأتي لاحقا. اليوم، يبدو ان الغوغائية، الأصنام الزائفة، والشعبوية غير الليبرالية بُعثت من سباتها، لتجبرنا مرة اخرى للتساؤل : هل نحن حقا متنورين، او على الأقل في طريقنا لعالم أفضل، او هل نحن محكوم علينا بتكرار كوارث ومصائب القرن السابق؟ وماذا نحن كأفراد من حيث علاقتنا بالدولة – خاصة عندما تبدو الدولة واولئك الذين حولنا يخذلوننا باستمرار؟ ثلاثة مفكرين كبار بثلاث رؤى مختلفة يمكن ان يساعدنا في فهم أفضل لزماننا ويوفر أدوات فكرية لمساعدتنا في مواجهة شياطيننا المعاصرين.

ماكس ويبر

في عام 1919، عندما حل الدمار في اوربا، كتب ماكس ويبر(1864-1920) مقالا أسماه السياسة كحرفة politics as a vocation فكّر فيه في اصول الدولة. ما الذي يصنع الدولة في المقام الاول؟ كيف تكون هي قادرة على الاستمرار بمرور الزمن؟ هو يصل الى استنتاج بان ما يسمح للدولة بالوجود هو السلطة، الوسيلة النهائية لضمان الاستقرار والنظام، "او إبقاء الاشياء في مكانها". ليس فقط أي نوع من النظام، وانما نظام لايسمح لنفسه بالانحدار نحو استبداد الأكثرية، كما حصل اثناء الثورة الفرنسية عام 1789 في فرنسا، التي أطاحت بالملكية فقط لتمهد الطريق لرعب الاعدامات والمشانق. يدّعي ويبر ان الدولة كـ "جماعة انسانية تدّعي بنجاح احتكار الاستعمال الشرعي للقوة المادية ضمن حدود الدولة"(ص1). الدولة هي السلطة الوحيدة التي يمكنها فرض الأحكام من خلال وسائل شرعية للقوة، وهي الكيان الوحيد الذي يستطيع وبشكل مبرر ممارسة السيطرة على الناس الذين يقيمون ضمن حدود الدولة. السياسة تصبح بالضرورة حول امتلاك الوسائل للحصول على حصة في تلك السلطة، وزيادتها، او توزيعها للسكان او لجماعات معينة من السكان.

يقول ويبر انه لكي تحافظ الدولة على شرعيتها، فهي تبرر ذاتها بثلاثة طرق رئيسية" 1- "الأمس الأبدي" eternal yesterday، والذي هو السلطة متجسدة في العادات والثقافة والتقاليد، 2- قائد كاريزمي قادر على كسب تأييد أكبر حشد من الناس من خلال شخصيته الكاريزمية، و 3- تأييد النظام القانوني، بقواعده الضخمة التي تسيطر على الحياة اليومية. يرى ويبر ان هذه الافكار لها تداعيات مشؤومة في السياق الحديث . فمن جهة، كانت الرأسمالية قادرة على استيعاب بعض مبادئ التنوير لتطوير نظام اقتصادي جلب فوائد هائلة عبر زيادة كبيرة في الموارد المتوفرة لكل من المستهلكين والمنتجين، وخفّض الأسعار وحقق زيادة في الاعتمادية المتبادلة بين الدول والامم، وسهّل ايجاد نظام ليبرالي مسؤول عن الحفاظ على الأمن والسلام. الرأسمالية رفعت ملايين الناس من الفقر المدقع وقادت الى تطورات تكنلوجية لعبت دورا هاما في الحياة اليومية لكل الناس، وساعدت في التحول من الاقطاعية والملكية والانظمة السلطوية الى أنظمة متأسسة على افكار الديمقراطية الليبرالية. لكن ويبر ايضا يصف كيف ان احد النتائج العرضية لهذه العملية كانت ظهور نظام بيروقراطي كبير للوكالات والافراد الذين يعيشون لأجل السياسات، يديرون مؤسسة هيراركية تخلق قوانين وسياسات تؤثر على الافراد في كل الأوقات. وكنتيجة لهذا الموقف البيروقراطي الناجم، نحن نستطيع الوصول الى نقطة ما حيث نعتقد اننا نحقق تقدما ومزيد من الحرية بدون ضرورة السؤال عن كيفية حصول التقدم والحرية. النتائج السيئة المحتملة لهذا الموقف هو "أزمة التنوير" التي كان ويبر خائفا منها. انها تتضمن زيادة المادية الاستهلاكية والترسيخ غير المتوازن للفرد على حساب الخير الجمعي مع تآكل القيم المشتركة. لذا كيف يبدأ المرء بخلق التغيير في موقف حينما نفترض سلفا اننا نحصل على مزيد من الحرية ؟

ويبر ذاته يدعو الى سياسات مرتكزة على أخلاق المسؤولية، قائلا ان اولئك الذين يتعاملون مع السياسة كمهنة يجب ان يختاروا التحرك بحذر بدلا من الثورية. هذا حسب قوله، هو الطريقة الوحيدة للتعامل مع الحقائق القبيحة للسياسة، البيئة ممتلئة بالخلافات والكراهية والمنافسة على السلطة والامتيازات. لسوء الحظ، ويبر بهذا يبدو يتجه الى نفس الطريق القصير الذي اتّبعه عمانوئيل كانط في كتابه (ماهو التنوير؟) عام 1784. مفارقة كانط في "فكّر لنفسك ولكن أطع الدولة" لا يمكن ان تقود الى أي تقدم في الموقف حيث ان الناس ليس لديهم أي سلطة لتغيير الوضع الراهن. كل من ويبر وكانط يقدمان محاذير ضد تبنّي أخلاق الغايات المطلقة (القائلة ان الغايات تبرر الوسائل، كما يفعل عادة الشيوعيون مثلا). ولكن كم هو عدد الناس الذين يُفترض بانتظام ان يتحدّوا السلطة عندما يصبح واضحا ان الهواة والسطحيين يقودون الدولة نحو مسار خطير؟ اذا لم يعد الطريق الوسط خيارا جاذبا، فهل ذلك يعني ان الثورة هي الخيار الوحيد؟.

مالكولم اكس

في كتابه (إقتراع ام رصاصة) عام 1964، أصدر مالكولم اكس رسالة قوية للامريكيين السود عبر الدعوة لما سمّاه "القومية السوداء". بالنسبة له تنطوي العبارة على وسائل الناس السود في تقرير المصير الذاتي. انها تشير للناس ان يتخذوا قراراتهم السياسية الخاصة بهم او بجاليتهم. انها ايضا تتضمن مثلا، حق مالكي الشركات السود للاحتفاظ بحقوق شركاتهم بدون ان يتم شرائها من جانب الشركات البيضاء الأكثر قوة او يُجبروا للمغادرة نتيجة لدخول شركات بيضاء.

يقدم مالكولم اكس نقدا لاذعا ملائما لكل شخص. هو يعتقد ان النظام السياسي الاقتصادي المفترس تصرّف تاريخيا ببغض تجاه الناس السود. هو ايضا يشير الى ان السياسيين يعانون من نفاق وقح ومروع لأنهم يتظاهرون فقط بالاهتمام بحالة الجالية السوداء بينما هم يبحثون عن أصواتهم ليُعاد انتخابهم، ولكن بالنهاية هم اليوم لازالوا جزءاً من جماعة النخبة التي تسعى لحماية مصالحها الخاصة دون اهتمام جاد بالناس الذين يمثلونهم. هو يرى ان الناس السود سمحوا لأنفسهم منذ وقت طويل ليتعرضوا للاحتيال من اناس يبحثون فقط عن أصواتهم، وكذلك للمشاركة في لعبة مزورة للسياسة صُممت منهجيا للعمل ضدهم بما يسمح في استمرار اللامساواة والعنصرية.

من المهم ملاحظة ان مالكولم اكس لا يدعو فقط لتغيير راديكالي في السياسة وانما ايضا يضع تأكيدا قويا على الفردية. هو يقترح "برنامج مساعدة الذات" و"فلسفة قم بها لنفسك"(ص5) التي تؤكد على اهمية كون الناس قادرين على التفكير بانفسهم وعمل قرارات ذكية بدون ضغط من قوى خارجية. هذا يساير فكر التنوير ويتفق مع كانط في الطلب للناس ان يفكروا بانفسهم. ان الفرق هو ان مالكولم لا يشارك كانط في احترامه للسلطة. هو يعرف ان سلطة معينة يتعامل معها كانت تقول زيفا انها تعطي الناس السود الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، بينما اولئك هم فقط يتظاهرون من اجل الاحتفاظ بسلطتهم. مالكولم يقول في نهاية اليوم يختار الناخبون منْ يصنع القرارات لهم، ولذلك فان اولئك السياسيين هم ذاتهم يعتمدون على الناس للتصويت لهم – هم ظاهرا بلا سلطة بدونهم. حالما يعترف الناس السود انفسهم بهذا ، هم سوف يفهمون كيف يخلقون نافذة لحدوث التغيير. هم سوف يفهمون ان كل شيء هو حول السلطة: حول تجميع السلطة السياسية والاحتفاظ بها بأكبر قدر ممكن. ايقاظ الجماهير هو الشيء الوحيد الذي يمكنه تغيير الموقف، عبر عمل نشطاء سياسيين، عبر التسجيل للتصويت واستعمال ذلك الصوت. واذا كان صندوق الاقتراع لايعمل، حسب قوله، عندئذ ربما الحل الوحيد المتبقي هو رصاص الثورة. رسالته تبقى قوية اليوم، ولكن الحديث الآن عن مستوى اكثر شمولية.

هربرت ماركوس

يتفق المنظّر الألماني الناقد هربرت ماركوس (1898-1979) مع مالكولم اكس بان التاريخ كان دائما يكتبه المنتصرون، وان العديد من المفاهيم السياسية، بدلا من ان تكون صحيحة موضوعيا، هي مصممة اجتماعيا من جانب اولئك الذين في السلطة. فمثلا، ماركوس يرفض المفهوم الغربي المثالي للتقدم. بدلا من ذلك، هو يعتقد انه من خلال العمليات المختلفة للانتاج الواسع والمكننة، كان للمجتمع الصناعي الحديث تأثيرا خطيرا على الفرد. هو يبدأ كتابه (الانسان ذو البعد الواحد)، 1946 بالجدال ان هناك "لا حرية ديمقراطية"كبيرة وان المجتمع الصناعي المعاصر هو توتاليتاري عبر قمعه كل أشكال الحرية الصحيحة. هناك فرق بين الحاجات العاطفية والسايكولوجية الزائفة والحقيقية، وان الاولى خُنقت تدريجيا واُبيدت ببطء على حساب الأخيرة.

لسوء الحظ، ان إبقاء الناس في مكانهم عبر عدم تحريرهم ليتابعوا ما يجدونه ذو معنى يجعلهم غير قادرين للتفكير في أنفسهم. بالخصوص، هم غير قادرين على ادراك ضرورة فصل انفسهم عن الثقافة القمعية التي تعزز لا شيء الاّ الإمتثال وترسيخ الوضع الراهن، حيث يعتقد الناس انهم احرارا رغم حقيقة ان لديهم القليل ما يقولونه عن كيفية تأثرهم بتلك السياسات والقوانين من جانب اولئك الذين في السلطة.هذا النظام مؤثر جدا لدرجة ان الفرد عادة لا يفكر حتى بتحدّي السلطة. ان مفهوم التمرد – حتى تصوّر عالم لا يعتمد على النظام وممارساته السلطوية – ببساطة لا يوجد لهم. ان مكننة العالم الخارجي استُنسخت داخل ذهن الفرد، جاعلة منه مجرد مسمار في الماكنة الفردية. ذلك هو اسوأ كابوس لويبر"نحن مرة اخرى نواجه احد اكثر المظاهر المزعجة للحضارة الصناعية المتقدمة: الصورة العقلانية لعدم عقلانيتها. انتاجيتها وفاعليتها، قدرتها على زيادة ونشر الراحة، تحويل التالف الى حاجة، والتحطيم الى بناء، ان المدى الذي تحوّل فيه هذه الحضارة عالم الأشياء الى اغتراب هو قيد التساؤل. الناس يعترفون بانفسهم من خلال سلعهم، هم يجدون روحهم في سياراتهم وفي الهاي فاي وفي المنزل المريح وتجهيزات المطبخ. ان الآلية التي تربط الفرد الى المجتمع قد تغيرت، وان السيطرة الاجتماعية جرى تثبيتها في الحاجات الجديدة التي انتجتها تلك الآلية".(الانسان ذو البعد الواحد، ص9).

الكلام أعلاه صريح جدا ومخيف مع انه مألوف ايضا. يدّعي ماركوس ان المجتمع الصناعي اصبح اكثر حداثة وتقدما، هذا ايضا يرسخ التصور الذي هو تجسيد للعقل ذاته، وهكذا يحتاج ليستمر دون تحدّي. من المحزن ان الناس يقبلون بهذا لأن التكنلوجيا المتغلغلة في كل مكان قادتنا للإعتقاد ان كل ما فيها ضروري. في النهاية لن يبقى هناك احد يتحدى النظام التكنلوجي الصناعي ، ومجمل الانسانية سوف تُترك في حالة من الشلل والوعي المعطل الذي نما في القرون الأخيرة. وعندما يصل الانتاج الواسع للمعلومات والسلع المادية حجما عالميا وحين نعتقد كلنا ان الهدف من الحياة هو ان نعمل، ونصنع نقود، عندئذ سيكتمل تلقين الجماهير. عندما يصبح تسليع كل شيء طريقة في الحياة، فان البعد الواحد هو الذي سيسود. هذه الطريقة هي التي ينتهي اليها النظام في السيطرة على الناس. النظام ومن خلال الجدال بان كل شيء يقوله لك هو صحيح ويمثل العقل فهو ايضا يكتسب سلاحا آخر. كل فكرة لاتلائم المعايير المعاصرة – في الحقيقة كل شيء يختلف عما هو متوقع عادة – هي منبوذة على اساس كونها غريبة وشريرة وغامضة. النظام يمكنه تخليد مُثله من خلال تصنيف طرق بديلة للتفكير باعتبارها ربما تؤدي الى نهاية العالم لو سُمح بوجودها. الحرب الباردة توفر توضيحا بارزا لتجارة الذعر هذه.

هذه هي الأسباب لنقد ماركوس اللاذع للوضعية وللتنوير وللعقلانية ذاتها. نقده للمجتمع هو في تماهي مع مالكولم اكس في كونهما كلاهما يجادلان بان الطبيعة المصممة اجتماعيا للحقيقة المقبولة سياسيا كانت دائما تُستعمل للإبقاء على كل من الجماهير والجماعات الاثنية في مرتبة متدنية، مبررة قمعهم وجعلهم في رتبة وضيعة. نقد ماركوس هو ايضا تذكير بويبر، في ان الابتكارات التكنلوجية والانتاج الواسع في النظام الرأسمالي، مع انها تعطي معنى للحرية وزيادة الثروة لكنها ليست الاّ شكلا جديد للهيمنة: "انتخابات حرة للسادة لا تلغي سادة العبيد" (ص7). العلاقات السياسية ترتكز على شخص واحد يمارس السلطة على الآخرين. هذا لا يتغير في المجتمع الصناعي الحديث، بل انه تفاقم بفعل التكنلوجيا. كيف يقترح ماركوس علاجا لهذا الموقف من السيطرة؟ الحل لديه يستلزم الابتعاد عن القمع المنهجي في المجتمعات الصناعية من خلال رفض ديناميات السلطة التي فُرضت على الناس من جانب اولئك القابضين عليها . انها محاولة لفهم ان ما بيع لنا، سواء بالنسبة للسلع او الايديولوجيات انما جرى فبركته. يجادل ماركوس ان الافراد يحتاجون لتبنّي ما أسماه "الرفض الكبير" – رفض العيش المرتكز على السلعة- لصالح التعبير الذاتي الفني. هنا هو يضع الأرضية لحركة المستقبل التي ترفض الطبيعة الاستهلاكية للحياة الحديثة وتحتضن بدلا من ذلك احساسا جديدا يضع أهمية للاشياء التي نقيّمها نحن حقا كافراد، وليس ما يظهر في شاشات التلفزيون او في الإعلانات . انها استبدال للذاتية الرأسمالية (توصف من قبل المجتمع الصناعي بالموضوعية) و "التقدم" بالقيم الذاتية للمرء. اذا كنا نرتبط فقط بتلك القيم الباطنية، فسوف نفهم ان الأشياء التي نريدها حقا هي مختلفة عن الاشياء التي نظن اننا نريدها. هذا الادراك سيقود الى عالم أفضل وأنظف وأكثر عدالة، حيث لا يُعطى الربح الاولوية على رفاهية الناس، و سيندمج ويتكامل في المجتمع اولئك الذين يجري تجاهلهم وقمعهم الآن.

مسار الثورات

كيف نفترض اننا سنجد المسار لذاتيتنا اذا كنا سلفا مجرد سن في ماكنة؟ ربما ديستوفسكي كان صائبا بالقول ان الناس يفضلون ان يُسيطر عليهم، اذا كان يعني هذا انهم يستطيعون التمتع براحة الحياة اليومية. كيف نوفّق بين روح الثورة التي هي وحشية وعنيفة ومُثل الحياة الرتيبة والمملة وغير المنجزة والتي هي مع ذلك حياة مطمئنة يوفرها المجتمع الحديث؟ هنا يلتقي المؤلفون الثلاثة. هم جميعهم يخاطبون القارئ كفرد مدرك شخصيا، وليس كفرد مخلوق اجتماعيا. هم ينظرون اليك بالعيون ويسألون : ماذا تريد؟ ما التأثير الذي تريد عمله في هذا العالم، وكيف ستقوم به؟ فمثلا، هل سيكون عبر تبنّي "أخلاق المسؤولية" التي توازن بين الروح الثورية والتحفظ الذي يتمسك به المرء عندما يتعامل مع السياسة والسلطة؟ او هل سيتم عبر "أخلاق الغايات المطلقة"، التي لا تأخذ بالاعتبار الطريقة التي تتحقق بها الأشياء، وانما فقط تهتم بتحقيق الهدف حتى وان تطلّب موت الآلاف من الناس. السؤال عن الطريقة التي يتم بها أفضل تنفيذ للتغيير الضروري في المجتمع هو صعب وربما مستحيل. ويبر ربما يفضل الخيار الاول – تطوّر متحفظ – بينما مالكولم وماركوس قد يذهبان للثاني: الثورة"عبر كل الوسائل الضرورية". مع ذلك، الاستنتاج الذي نصل اليه هنا هو ان الخطوة الاولى يجب ان تحدث ضمن ذواتنا. قبل ان نقرر الأخلاق التي يجب اتّباعها من الأفضل فهم ظروفنا وأهدافنا الخاصة في هذا العالم الشديد التعقيد. ان روح الثورة يمكن تنتشر بسرعة وبسهولة لكنها قد تنزلق بنفس السهولة الى الفوضى والخراب لكل المجتمع. ولكن في نفس الوقت، القناعة والرضا يجعلان المرء غافلا عن الفساد الموجود واللامساواة. في كونه مجرد مسافر، يسمح المرء لقطار اللاانصاف واللااخلاق ليستمر في سكّته الهادئة. التغيير يأخذ وقتا بقدر ما هو حتمي – ومع ذلك قبل ان نبدأ بعمل قرارات حول شكل مستقبل العالم، من الأفضل فصل أنفسنا عن الديناميات الاجتماعية التي تضعنا في ظروف غير مؤكدة ضمن دورة من اللاوعي السياسي. ان فهم منْ نحن يمكن ان يجعل من السهل علينا فهم منْ يجب ان نكون، ويمكن ان يسمح لنا للانخراط في نقاشات حماسية حول الديناميكية الاجتماعية التي تقيّدنا. ربما فقط حينذاك سنكون قادرين على السيطرة على المجتمع الحديث وأخذ دورنا فيه.

***

حاتم حميد محسن

..........................

Philosophy Now, April/May2022

 

 

في المثقف اليوم